في قولهم نحن نسلم للملاحدة الطبيعيين كذا وكذا من نظرياتهم جدلًا من باب إلزامهم بما عندهم.

3 وقت القراءة

قال أبو عبد الله العكبري (الإمام ابن بطة 304 هـ - 387 هـ) في كتابه الإبانة الكبرى:

"والطبقة الرابعة: فهم المتعمقون في الدين الذين يتكلمون في العقول، ويحملون الناس على قياس أفهامهم، قد بلغ من فتنة أحدهم، وتمكن الشك من قلبه، أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك، ليس يعتقدها، ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها، إن عرضت له من غيره حجة هي ألطف منها انتقل إليها فدينه محمول على سفينة الفتن يسير بها في بحور المهالك يسوقها الخطر، ويسوسها الحيرة، وذلك حين رأى عقله أملى بالدين، وأضبط له، وأغوص على الغيب، وأبلغ لما يراد من الثواب من أمر الله إياه، ونهيه، وفرائضه الملجمة للمؤمنين عن اختراق السدود، والتنقير عن غوامض الأمور، والتدقيق الذي قد نهيت هذه الأمة عنه، إذ كان ذلك سبب هلاك الأمم قبلها، وعلة ما أخرجها من دين ربها وهؤلاء هم الفساق في دين الله المارقون منه التاركون لسبيل الحق المجانبون للهدى الذين لم يرضوا بحكم الله في دينه حتى تكلفوا طلب ما قد سقط عنهم طلبه، ومن لم يرض بحكم الله في المعرفة حكما لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا كان كافرا، وكيف يرضون بحكم الله في الدين، وقد بين لنا فيه حدودا، وفرض علينا القيام عليها، والتسليم بها، فجاء هؤلاء بعد قلة عقولهم، وجور فطنهم وجهل مقاييسهم، يتكلمون في الدقائق، ويتعمقون؟ فكفى بهم خزيا سقوطهم من عيون الصالحين، يقتصر فيهم على ما قد لزمهم في الأمة من قالة السوء، وألبسوا من أثواب التهمة، واستوحش منهم المؤمنون، ونهى عن مجالستهم العلماء، وكرهتهم الحكماء، واستنكرتهم الأدباء، وقامت منهم فراسة البصراء، شكاكون جاهلون، ووسواسون متحيرون، فإذا رأيت المريد يطيف بناحيتهم فاغسل يدك منه، ولا تجالسه "

قلت:

فتأمل قوله " أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك، ليس يعتقدها، ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها " 

فهذه الحجة الجدلية المحضة قصارى الأمر إن قدر لها أن تفيد فهي تفيد في إلزام الخصم بالتناقض ولا تفيد بالضرورة انتقاله إلى مذهبك إلا إن كانت القسمة الضرورية حاصرة بين مذهبك ومذهبه فإن كان مذهبه خطأ فمذهبك صواب وإلا فالعكس.

لكن ما نراه اليوم من احتجاج بعض إخواننا هداهم الله بنظريات هي أساسا مبنية على مسلمات دهرية أباحت للقائلين بها الاعتداء على الغيوب المحضة وطبعنتها "طبعنة الفجوات المعرفية" مهما كان نوع هذه الغيوب حتى لو كانت خلق الطبيعة نفسها كما نعرفها والاستدلال بمشاهدة لون كذا، وحركة كذا، وتوسع كذا، وبعض التشويشات التي رصدناها في كذا وكذا على أن الكون كله غائبه وشاهده قد حدث قبل كذا وكذا من الوقت على الكيفية الفلانية تحديدا دون غيرها، فخبرني بربك إن سلمت للملحد أن بإمكانه أن يعلم كل هذا استقالا عن الوحي ماذا بقي!

تحاول إلزامه جاهدا بالدخول في دينك بناء على تسليمه هو بهذه النظرية فهذا ليس من باب الزامه بالتناقض أصلًا ولو كان لا يلزمه هنا من نفس محتوى النظرية كما بيننا  في غير موضع بل يلزمك أنت، لكن هبه سلم لك أن النظرية تقود للإسلام، فخبرني كم سيتجهم على ربك سبحانه وتعالى لأجلها؟ 

ربنا استوى على العرش بعد الفراغ من خلق العالم في اليوم السادس وعنده مازال العالم لم يفرغ من خلقه بعد فمتى استوى الرب إذا ؟

ترتيب خلق السماوات والأرض والكيفية التفصيلية التي خلقت بها كما جاء في الكتاب والسنة والآثار كل هذا ستتقرمط عليه وترمي السلف بالأخذ عن بني اسرائيل وإضلال الناس في هذا.

وستفتح على نفسك باب للبدع لا أول له ولا آخر ويلزمك أن تقبل كل النظريات الأخرى التي بنيت على نفس أنواع الأدلة وإلا لزمك التناقض.

وإن أخبرت هذا لاحقا أن النظرية التي بنى اسلامه كله عليها باطلة حق له إذا أن يكفر ويخرج من الدين بالكلية ويقول لك أنت قد كذبت علي إذ زعمت صحة هذه النظرية وجعلتني أبني موقف بناءً عليها وما ثبت بطلانه ثبت بطلان كل ما بني عليه حتى يبنيه على غيره، فهل عندك أدلة غيره ؟ 

فإن كان عندك فلماذا لم تقدمه منذ البداية ؟ ما الذي أحوجك لكل هذا العبث؟ سبحان الله.

وهذا نجده كثيرا عند المتكلمين، يبنون صحة مذهبهم على إلزام غيرهم بالتناقض وحسب كما نبه ابن تيمية أن الرازي صحح مذهبه في بعض المسائل الكلامية الدقيقة فقط بإلزام الكرامية بالتناقض وهذا ليس فيه حجة إثباتية! 

فليس كل نقض وإلزام للخصم يقتضي أن يترك قوله إلى قولك أنت، فانتبه.

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق