مسألة اللفظ بالقران من كتاب شرح الأصبهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية

4 وقت القراءة

 

"فإن الله تعالى أضافه إلى الرسول البشري تارة، وإلى الرسول الملكي أخرى: إلى جبريل ومحمد صلى الله عليهما وسلم تسليما، وكلاهما رسول مصطفى؛ كما قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75].

قال تعالى: {إنه لقول رسول كريم • ذي قوة عند ذي العرش مكين • مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21]. فهذا جبريل، وقال تعالى: {إنه لقول رسول كريم • وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون • ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون • تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 40 - 43]. فهذا محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان مضافا إليه لأنه أحدثه لتناقض الخبران؛ فإنه إن كان أحدثه هذا لم يحدثه الآخر.

[وأيضا فإنه سبحانه قال: {إنه لقول رسول كريم}. ولم يقل: نبي ولا ملك. فأضافه إليه باسم «الرسول» ليبين أنه مبلغ له عن مرسله، لا محدث له من تلقاء نفسه، فعلم أنه أضافه إلى الرسول؛ لأنه بلغه عن الله، لا أنه أحدثه وأنشأه.

وأيضا فالمضاف هو القرآن، ليس هو مجرد لفظه، فلو كان المراد ما ذكرتم، لزم أن يكون كله كلام محمد أو جبريل، لا كلام الله تعالى، وهذا قول الوحيد، الذي قال الله تعالى فيه: {ذرني ومن خلقت وحيدا • وجعلت له مالا ممدودا • وبنين شهودا • ومهدت له تمهيدا • ثم يطمع أن أزيد • كلا إنه كان لآياتنا عنيدا • سأرهقه صعودا • إنه فكر وقدر • فقتل كيف قدر • ثم قتل كيف قدر • ثم نظر • ثم عبس وبسر • ثم أدبر واستكبر • فقال إن هذا إلا سحر يؤثر • إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 11 - 25].

فالله تعالى قد كفر من جعله قولا للبشر، وأخبر سبحانه أنه قول رسول من البشر، كما أخبر أنه قول رسول من الملائكة؛ فتبين أنه قول للرسول بلغه عن المرسل له، فله فيه البلاغ، لم يحدث هو شيئا منه، بل بلغه كما أنزل عليه. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]. وقال تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} [الجن: 28].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وفي رواية: (فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) 2. ومن بلغ عن الرسول كلاما 

كقوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى) 1. فذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان المبلغ بلغه بصوت نفسه وحركته.

فكلام الله تعالى أولى أن يكون كلام الله، وإن بلغه المبلغون بحركاتهم وأصواتهم، كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)  فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم الصوت إلى العبد، وإن كان القرآن كلام الله لا كلام العبد. كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2]. وقال تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} [الحجرات: 3].

فالقرآن العزيز الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، ليس لملك ولا لبشر فيه شيء، وإن كان القراء من الملائكة والبشر إنما يقرؤونه بحركاتهم وأصواتهم.

والتلاوة إن أريد بها نفس أفعال العباد، فليست هي الكلام المتلو، وإن أريد بها نفس القرآن، فالقرآن هو كلام الله الذي يتلى. وقد بسطنا الكلام على هذا الموضع وما فيه من النزاع، وبينا أن بعضه لفظي وبعضه معنوي في غير هذا الموضع.

قال الشيخ ابن بطة العكبري رحمه الله:

الإبانة الكبرى لابن بطة (6/ 300)

قال الشيخ: فالقول في هذا ما كان عليه أهل العلم والتسليم لما قالوه، فمن قال: إن الإيمان مخلوق فهو كافر بالله العظيم، لأن أمل الإيمان وذروة سنامه شهادة أن لا إله إلا الله، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع لأن القدرية تقول: إن أفعال العباد وحركاتهم غير مخلوقة، فالأصل المعمول عليه من هذا: التسليم لما قالته العلماء، وترك الكلام فيما لم يتكلم فيه الأئمة، فهم القدوة وهم كانوا أولى بإكلام منا، نسأل الله عصمة من معصيته، وعياذا من مخالفته

قال الشيخ قوام السنة الأصبهاني رحمه الله:

الحجة في بيان المحجة (2/ 478)

وَمذهب أهل السّنة أَن الله تَعَالَى أظهر للسامعين من أَلْسِنَة مخلوقة، وأفعال مخلوقة، وَهِي حركات الْأَلْسِنَة كلَاما غير مَخْلُوق، وَكَذَلِكَ يظْهر من حبر مَخْلُوق وكاغد مَخْلُوق، وَأَقْلَام مخلوقة، وكلاما غير مَخْلُوق بِلَا كَيفَ.

وَقَالُوا: أَنا نسْمع تَارَة صَوتا طيبا، وَتارَة صَوتا غير طيب، وَتارَة رفيعا، وَتارَة غير رفيع. يُقَال لَهُم: إِن الله قد أظهر من الْأَلْسِنَة المخلوقة والحركات المخلوقة قُرْآنًا غير مَخْلُوق، وَكَذَلِكَ أظهر من المداد الْمَخْلُوق، وَالْأَفْعَال المخلوقة كلَاما غير مَخْلُوق بِلَا كَيفَ، وَالله تَعَالَى يظْهر صِفَاته من حَيْثُ يَشَاء، كَيفَ يَشَاء عَلَى مَا يَشَاء، وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لتلقى الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم} . وَقَالَ: {وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن} . وَقَالَ: {هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} وَهَذَا إِشَارَة إِلَى حَاضر. فَأخْبر أَن النُّطْق يَصح من الْكتاب بِلَا نَاطِق، والناطق بِهِ رَبنَا عَزَّ وَجَلَّ بِلَا كَيْفيَّة، وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

قال الإمام البخاري رحمه الله:

خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 47)

قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: «إن أفعال العباد مخلوقة» قال أبو عبد الله: " حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق، قال الله: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49] " وقال إسحاق بن إبراهيم: «فأما الأوعية فمن يشك في خلقها؟» قال الله تعالى: {وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور: 3] ، وقال: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج: 21] «، فذكر أنه يحفظ ويسطر» . قال: {وما يسطرون} [القلم: 1]

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق