قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد في جنازة. فقال: ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قوله تعالى {فأما من أعطى واتقى} {وصدق بالحسنى} {فسنيسره لليسرى} {وأما من بخل واستغنى} {وكذب بالحسنى} {فسنيسره للعسرى} } . وفي الصحيح أيضا {أنه قيل له: يا رسول الله اعلم أهل الجنة من أهل النار فقال: نعم فقيل له: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب ويدعوا العمل كما يفعله الملحدون. وقال: كل ميسر لما خلق له وإن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة وهذا من أحسن ما يكون من البيان. وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وهو قد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها فلو قال هذا: إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب فلو قال: إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر كان جاهلا ضالا؛ لأن الله علم أن سيكون بذلك وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلا بد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها.
وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا شقيا في الآخرة قلنا: ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء فالله علم أنه يشقى بهذا العمل فلو قيل: هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا؛ لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ومن اتبع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله. ولهذا لما {سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين. قال: الله أعلم بما كانوا عاملين} يعني أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية. وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته فمن قدر أن يكون منهم يسره للإيمان والطاعة. فمن قال: أنا أدخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة. ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب. ومن قال: أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا؛ لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه. وإذا قدر للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات."
مجموع الفتاوى ( القدر 8/ 68)
#الغيث_الشامي