قال الشيخ الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله في الإبانة الكبرى:
"فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر، والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به، وفرغوا له آراءهم وجعلوه دينا يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر، ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علما به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير، والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله، ومخزون غيبه، وخفي أقداره، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره، وقلب فيه فكره، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعدا، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيرا، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره، وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده. والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه [ص:421] عن معرفة خلقه، أما يعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون"
- الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 420)
---
قلت: فيشترك المعطل للصفات والأوامر الإلهية والمشبه لها بصفات وأوامر المخلوقين بهذا الكبر الخفي في صدره الظاهر في أفعاله وأقواله، فالمشبه والمعطل على حد سواء يزعم أن عقله كاشف لحقائق الأشياء كلها في الشاهد والغائب، مع أنه حقيقة لا يعرف المعاني إلا من الشاهد والمعاني هذه تحتمل عدة كيفيات وهو يعرف كيفيات بعض المخلوقات التي تصح عليها تلك المعاني دون باقي الكيفيات التي يجزم العقل بامكانها ولا يستطيع تخيلها!
فالأمر هنا أوسع من الجهل بالكيفيات الغيبية وحسب، بل حتى أنت لا يمكنك أن تجزم أن المعاني المحدودة الذي يقوم مدار فكرك عليها هي كل مافي الأمر! فضلًا عن الكيفيات) لذلك عليك أن تتواضع وأنت تفكر في الغيبيات، واترك ما لا شأن لك به، فلو أن الله تعبدك بالتفكير به لزعمت أنه تكليف بما لا يطاق، والنفس الإنسانية تتشوف إلى الجدل والمسائلة المذمومة وتشتهي العلم، فهذه من الشهوات كما أن شهوة النساء عند الرجال من الشهوات، فينبغي عليك أن تتكلف كبحها وعقلها بسياج الحق المبين الكامل وهو نور النبوة فأنت هنا على الأرض لتعبد الله وتنجو، فلا تقلد الملاحدة والفلاسفة "المستكبرين" في طريقة تفكيرهم في الغيوب وتنطعهم في السؤال فيما لا ينفع وكأنك تعيش على الأرض بلا غاية وعندك وقت فائض لهذا، أنت موجود هنا لتنجو فأنجُ بما نجا به سلفك واترك السبل المتفرقة حتى لا تتيه فيها، فالحمد لله أنت تعرف الطريق فما حاجتك لأن تجرب غيره ؟!
وهذا كذلك نجده ظاهرًا في صنيع الفلاسفة المتسمين زورًا بالعلماء وهم لا يتكلمون إلا بالخرافة "في هذا الباب على الأقل" فيزعمون أنهم يعلمون كيف خلق العالم على غير مثل سابق وكيف خلقت كل الكائنات الحية ومافي باطن النجوم البعيدة مع أنهم لم يحفروا إلى باطن الأرض نفسها، يعممون ما يعرفون من العادة على سطح الأرض وبعض الكواكب المجاورة على كل شيء يرونه في السماء أو حتى أبعد مما يرونه بل على الكون كله بل وعلى كل موجود وجد في أي زمان وأي مكان يخضعونه لنظرياتهم ويختزلون أسبابه في ما يعلمون من أسباب وطبائع وسنن!
وقد جاء التنبيه على ذم هذا السبيل في عدة آثار سلفية أنقل بعضها للفائدة:
الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 410)
321 - حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن صبيح، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا بشير أبو إسماعيل، عن الشعبي، قال: «سل عما كان، ولا تسأل عما لم يكن ولا يكون»
الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 409)
318 - حدثنا أبو بكر محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا مؤمل بن أهاب، قال: حدثنا عبد الوهاب بن همام، عن محمد بن مسلم، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، قال: سئل زيد بن ثابت، عن شيء فقال: «أكان هذا؟» فقيل: لا، فقال: «دعه حتى يكون، فإنما هلك من كان قبلكم، بأنهم قاسوا ما لم يكن بما قد كان حتى تركوا دين الله»
قال الامام الدارمي رحمه الله : حدثنا أبو سَلَمةَ، عبد الواحد -يَعنِي ابن زياد-، حدثنا سَالمٌ يَعنِي ابنُ أَبِي حَفْصَةَ، حدثنا مُنْذِرٌ أبو يَعْلَى الثَّوري قال: قال محمدُ بنُ الحَنَفِيَّةَ: «إن قومًا ممن كانوا قَبْلَكُم؛ أُوتُوا عِلْمًا كانوا يَكْتَفُون فيه، فسألوا عَمَّا فَوْقَ السَّماءِ ومَا تَحْتَ الأرضِ؛ فَتَاهُوا، كان أَحَدُهُم إذا دُعِي من بين يَدَيْهِ أَجَاب مِنْ خَلْفِهِ، وإذا دُعِي مِنْ خَلفِهِ أجاب من بين يديه»
[ كتاب الرَّدُّ عَلى الجَهَمِّية، أبو سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ، تحقيق: أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيّ الأَثرِي، الناشر: المكتبة الإسلامية، القاهرة - مصر، الطبعة: الأولى، ١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م، ص 37]
#الغيث_الشامي