حضرني أثناء مراجعتي لكتاب الصواعق المرسلة لابن القيم أن أكتب هذه المقالات، ملخصًا بابًا شديد الأهمية في الكتاب وهو هدم طاغوت عدم يقينية الأدلة اللفظية وسأجعل هذا المقال مقدمة تلخيصية للفصل مع تفريع مسألة عصرية عليها ذات صلة ثم سأجعل المقال الثاني مجرد نقل حرفي لما نقله ابن القيم عن شيخه في الباب فهو باب نافع جدّا
بسم الله:
العالم بمبحث الملل والنحل يعلم أهمية اللزوم والإلزام والالتزام، فإن قولك في باب قد يلزم منه قول في باب آخر، والمحقق لقوله وعقيدته مدرك لهذه اللوازم آخذ بها دافعٌ لما لا يلزمه.
وإن أهل السنة لما دافعوا عن يقينية العلم من الألفاظ التزموا مقدمة في هذا مفادها أن سبب يقينية الأدلة اللفظية هي تواتر معانيها معها بل وحفظ مقصود المتكلم فإنه لما كانت الألفاظ وسائط لنقل المعاني كانت المعاني أهم من مجرد الألفاظ والأصوات فكان داعي العقلاء لنقلها أكبر وحفظهم لها أسهل من حفظ الألفاظ بحذافيرها.
والرسول لم يقصر في تبيان هذه المعاني وهو أفصح الناس، ويمتنع أن يكون جميع الصحابة لم يفهموا عليه ما أراد أشد الإرادة أن يوضحه لهم وهو قادر على ذلك وهم رجال عقلاء فصحاء فمحال أنهم كلهم ما فهموه بل أن يكون معظمهم لم يفهموا!، بالذات والحال أن الله يباهي بوضوح وفصاحة القرآن ومع ذلك يجعل السنة مبينة شارحة له بأوضح ما يكون شرحًا بالقول والعمل.
فلما كان الأمر كذلك ضاق الخناق جدّا على القائلين بالإعجاز العلمي الذي يقتضي عدم يقينية الأدلة اللفظية، إذ هو يذهب إلى تزييف فهم السلف وأنهم احتاجوا إلى مصادر خارجية (الاسرائيليات) للفهم وكأن الرسول قصّر في إفهامهم ثم جزموا بما أمرهم الرسول أن لا يجزموا به من الأخبار عن بني اسرائيل وهم المصدقين في نقل القران والسنة بألفاظها ومعانيها!
واحتجوا بخلافهم الذي هو دائر على التنوع أو التضاد الذي يُحسم بدليل أحد الطرفين فيكون الثاني عادمًا للدليل بالضرورة والأول آخذٌ للدليل عن الرسول إذ كان الرسول يعلمهم المسائل والدلائل لا المسائل فقط وهم يقلدون دون العلم بالدليل إذ هو وظيفته أن يبين القرآن بالذات أنهم تكلموا في التفسير ومواضع النزول وغير ذلك بل وكانوا يباهون بأنهم أعلم الناس بالتفسير.
فأنت لديك الباري سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته وحكمته يريد أن يفهم قومًا معينين ويبين لهم.
فهو إما قادر أن يرسل لهم من يفهمهم بما يليق بأدواتهم أو لا، فهو قادر، وهو كان عالمًا أنه يريد ذلك حينما خلقهم، فقد خلقهم محلًا قابلًا لذلك، وثم جعل الرسول سببًا تامًا لذلك.
فاطعن بواحدة من هذه ان استطعت وستكون قد خرجت من الملة بالكلية، ولأجل ماذا؟ لأجل نظريات هي ظنية عند أصحابها، لا تدري هل تثبتها هي بالقران، أم تثبت القرآن بها، وهل عدمت الأدلة قبل اكتشاف هذا الإعجاز العلمي حتى تلتزم كل هذه المقدمات الكارثية لتثبت الإسلام وأنت في الباطن هدمته وشككت في نقل المعاني وتبيان الرسول!
فإن قلت إن الرسول لم يرد أن يبين هذه المعاني للصحابة بل تركها لأجيال بعدهم، فوالله إن هذا الاعتراض فوق أنه زندقي خبيث فهو أيضًا شديد التفاهة والسخف، فإن الرسول ما قيد هذا القيد بل أخبر أنه يريد أن يبين القرآن كله وأخبر الصحابة أنه بين القران كله وهم فسروا القران كله وما زعموا الجهل ببعضه، والرسول أمر الجميع أن يتدبروا القران كله حرفًا حرفًا وهم كانوا أناس يهتمون بمعاني القران أكثر منك ومن أبيك ومن جدك ومن أرجل واحد وأعلم واحد رأيته في حياتك فهؤلاء لو أنفق الواحد منا مثل جبل أحد ما وصل لنعله!
فتأدب مع الصحابة يا رجل واتق الله! وفوق هذا كانوا يخافون أن يتكلموا على الله بغير علم ودونك الآثار الواردة عن أحب رجل لرسول الله وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم!
فشدة الداعي عند هؤلاء للعلم بمعاني القرآن وهي الأصل وبها يحصل التدبر أكبر بكثير من مجرد قراءة ألفاظ لا يفهمونها كالأطفال أو أن الرسول أخفى عنهم المعنى الحقيقي وأضلهم بمعاني آخرى يتسلون بها ريث ما يكتشف أسيادك الملاحدة هذه الاكتشافات في الغيوب المحضة كأصل العالم ومن أي شيء خلق وكيف خلق وكم استمرت مدة خلقه وما الآثار الذي تركها هذا الخلق من إشعاع وغير ذلك!
فسبحان الله تشك بأفهام الصحابة ولا تشك بأفهام هؤلاء الظنية لهذه الظواهر الغيبية البعيدة مليارات السنين!
هذا والله أعلم
#الغيث_الشامي