أخبرنا عبد الله قال قلت لأبي: إن لوينًا محمد بن سليمان الأسدي يقول: (أول ما خلق الله القلم)، والله لم يزل متكلمًا قبل أن يخلق الخلق، فأعجبه هذا واستحسنه.
حدثني العباس بن محمد بن عبد الكريم، حدثنا جعفر الطيالسي قال: سمعت محمد يحيى بن معين يقول: بيننا وبين الجهمية كلمتان:
يسألون: كان الله وكلامه: أو كان الله ولا كلام؟
فإن قالوا: كان الله وكلامه: فليثبت عليهم ذلك
وإن قالوا كان الله ولا كلام
فيقال لهم: كيف خلق الأشياء وهو قال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ؟!
والآثار في هذا الفصل من هذه النوعية كثيرة
الشاهد في الأمر أن مثل هذه الآثار فيها عدة مسائل:
إثبات أن الله كان متصفًا بصفات فعلية لم تزل قبل أن يخلق الخلق أي إثبات أن هناك "قبلًا" للخلق، وهذا فيه رد على الأشاعرة بأن الزمن مخلوق، لأنه لو كان مخلوقًا لخلق بكن ولكان الله موجودًا "قبله" لم يزل متكلمًا، وهذا بدوره زمن كان الله فيه قبل العالم، فتأمل.
الثانية: إثبات دوام فاعلية الرب كما أثبتها الدارمي والبخاري أنها من لوازم الحياة، أن الله لم يزل متكلمًا الكلمة بعد الكلمة بمشيئته.
وبالتالي فهذا فيه إبطال لقوم المتكلمين ما تسلسل لم يتحصل، ولا يفيدهم القول بأن هذا في الأفعال اللازمة وليس المتعدية (أي في الأفعال لا المفعولات) وخذها قاعدة:
تلزم خصمك بأن القول في كذا كالقول في كذا، فيخرج لك هو فرق بين القولين محاولًا إلزامك، فعليك أن تنتبه أن مطلق وجود الفرق شيء وأن الفرق مؤثر شيء آخر.
فهذا الله عز وجل ألزم الكفار في مسألة البعث بأنه كما أنشأهم النشأة الاولى قادر أن يعيدهم، مع وجود فرق واضح أن هذا خلق أول وذاك خلق ثاني بعث فهذا نوع فرق بينهم كما هو واضح، ولكنه غير مؤثر في وجه الإلزام وهو أن الذي خلق خلقًا أول قادر أن يخلق خلقًا ثانيا وهو البعث وكونه أولًا أو ثانيًا فارق غير مؤثر طالما ثبت أن الله قادر على الخلق.
وهنا نقول نفس الأمر، الفرق بين كون الحوادث المتسلسلة زمنيّا بمشئة الله لازمة أو متعدية (أفعال قائمة بذات الله أو مخلوقات بائنة عنه) ليس مؤثر ، إذ الكلام في مطلق تسلسل الحوادث أيّا كانت، فإن جازت في الأفعال دون الاضطرار إلى القول أن فعل معين أزلي، جازت في المفعولات ولا فرق.
ولزيادة التوضيح يقال، أليس الله يتكلم الكلمة بعد الكلمة، فهب أنه في كل كلمة يقول "كن" فهكذا يتفرع جواز تسلسل المخلوقات من تسلسل الكلمات ففتح الباب لتسلسل الكلام هو فتح الباب لتسلسل الخلق كما هو واضح وإلا كان تحكمًا ظاهرًا.
الثالثة: قول المتلكمين أن الله فاعل في لا زمن (الأزل عندهم هو ما قبل خلق الزمن فإذا سمعتهم يقولون خالقًا في الأزل فاعلم أنهم لا يقصدون أي لحظة من لحظات الماضي التي يصح فيها أن يقال فيها أنه "فعل" بصيغة فعل الماضي.
فيقال أن هذه الأثار كلها تدل أنه قال كن "قبل" أن يخلق المخلوق وجاء على الفور المخلوق بعدها " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)"
والأخيرة فيها الرد على الفلاسفة أن الله قدرته لا تتعلق بالعدم، حيث أنه يقول للشيء قبل أن يوجد كن فيكون، وهذا القول دخل على المسلمين من فيلسوف يوناني يدعى بارمينيدس، يقول أنه لا شيء يأتي للوجود ولا يذهب للعدم.
ولا يخفى عليك إجمال كلمة يأتي وكأنه كان في مكان ثم أتى، والحقيقة أن الله يخلقه وينشأه بعد أن لم يكن وليس أنه "يأتي" للوجود من مكان اسمه العدم!
فسبحان موزع الأرزاق والعقول.
فالله يقول له كن فبالكلمة يكون وبما شاء من خلقه وإلا فالأصل الشرعي أن الله قادر أن ينشأ ما يريد بالكلمة وحدها دون أن يفتقر ويضطر لشيء إضرار العاجز إنما إن أراد أن يخلق من شيء من مخلوقاته فإنه يكون باختيار الحكيم القادر لا باضطرار العاجز المستكمل بالغير.
يقول الإمام الدارمي:
تفسيره عامة من آمن بالله: أنه إذا أراد شيئا قال له: «كن فيكون»، ومتى لا يقول له: «كن»؛ لا يكون، فإذا قال: «كن»؛ كان، فهذا المخرج من أنه كان بإرادته وبكلمته، لا أنه نفس الكلمة التي خرجت منه، ولكن بالكلمة كان، فالكلمة من الله «كن» غير مخلوقة، والكائن بها مخلوق.
356 - أخبرنا الحسين بن أحمد بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا محمد بن بندار , ومحمد بن إسحاق بن مبشر الطبريان قالا: حدثنا أبو نعيم الإستراباذي قال: قلت للربيع: سمعت البويطي يقول: إنما خلق الله كل شيء بكن , فإن كانت كن مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقا. قال: فحكاه الربيع قلت: وهذا معنى ما يعبرون عنه العلماء اليوم: إن هذا كن الأول كان مخلوقا , فهو مخلوق بكن أخرى. فهذا يؤدي إلى ما يتناهى , وهو قول مستحيل. (في اللالكائي)
فلو كان الله مضطرًا أن لا يخلق إلا بمخلوق آخر وكان ذلك شرطًا في كونه قادرًا بالأساس فلن يخلق أي شيء بالأساس حتى يخلق منه شيء آخر.
وقد ورد ذلك في ألفاظ أخرى على لسان السلف كما قال ابن تيمية:
وكتاب درء تعارض العقل والنقل ط-أخرى (9/ 240)
” وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه فإذا ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتاب والسنة بل ولا مذهب السلف والأئمة وهو المطلوب
وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه وبين التسلسل في الآثار يظهر صحة الدليل الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة على أن كلام الله غير مخلوق مثل سفيان بن عيينة
وبيان ذلك أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئا إلا بكن فلو كانت كن مخلوقة لزم أن يخلق بكن أخرى وتلك الثانية بثالثة وذلك هو التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء فإنه تسلسل في أصل التأثير فإنه لا يخلق شيئا إلا بكن فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئا ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن فيلزم الدور الممتنع وهو المستلزم للجمع بين النقيضين وهو أن تكون موجودة معدومة”
رابعًا: أن السلف كانوا يحتجون بالأدلة العقلية الفطرية التي طريقها ومصدرها العقل الفطري وليس نظريات الفلاسفة المستوردة أو تقليدهم على ما بدعوه من أصول ليست من ضرورة وفطرة العقل والفهم الطبيعي للمعاني اللغوية التي فطر الله الناس عليه وضرورة لسان العرب الأصيل أيضًا، ويحتجون بها حال كونها موافقة للكتاب والسنة
فتجد كل هذه الأثار فيها نوع من الحجاج العقلي الذي قد ينكره البليد ولا يفهمه سواء انتسب للسلفية أو لأهل البدعة بشكل صريح، فيظن أن السلف دراويش لا عقل لهم وهذا أجنبي تمامًا عن طريقة السلف في الاستدلال.
فالإمام السلفي لم يكن يحتج بقاعدة عقلية وضعها فلان وفلان من الناس أو يقرأ لآرسطو مثلًا وثم يحتج بجزء من كلامه لنصرة العقيدة، إنما يرى أن القول المعين للجهمية غير معقول ويحكم العقل باستحالته أصلًا بمجرد تأمله والتفكير فيه فيصيغ ذلك على هيئة حجة تبين تناقض الخصم وسخف قوله ويوردها في مقام تعضيد النص الموجود أصلًا لا من باب اختراع عقيدة جديدة لم يأت بها الكتاب والسنة.
انتهى
#الغيث_الشامي