"توصف طبيعة المواقف الفردية المعاصرة من الدين بكونها «استهلاكية»
أو ذات طابع تسوقي؛ شائع في حقل دراسات علم اجتماع الدين، حيث يوصف الواقع الديني المعاصر بالسوق، ويوصف سلوك الأفراد بالسلوك الاستهلاكي الشائع في الثقافات الرأسمالية، فمستهلكو الدين يتعاملون مع السوق الدينية تدريجيا- كأنها قائمة طعام في الكافتيريا" ¹
وهذه الظاهرة تراها جلية في ظاهرة فقهاء "ما يطلبه المستمعون" وقد يفلسفونها لتصبح "فقهاء "متطلبات" العصر، وعلى صورة صادمة أكثر، نلاحظ هذا حتى بين طلاب العلم فيما يسمى بـ"مسائل السوق" وهي تلك المسائل التي يتم انتقائها بناء على مشاريع سياسية ويقفز طالب العلم فيها للفروع قبل تعلم الأصول لأهداف مسبقة هو ما اختار تحرير هذه المسألة على هذا النحو إلا للوصول إليها كما يشتهي، أي باختصار توضع العربة فيها أمام الحصان، فشيوع هذا المسائل لعلاقتها بمسائل سياسية أو وجهة نظر فلسفية مطلوب شرعنتها تستدعي الدفاع عن اختيار شرعي دون آخر مبدئيّا وتكون العاطفة هي الحاكمة ويجيّش طلاب العلم الصغار لحرب المخالف فيها من باب اسقاطه دعمًا للمشروع لا أكثر.
وكذلك في ظاهرة التنقل بين المذاهب العقدية، حيث أصبح طالب العلم بإمكانه أن يغير مذهبه العقدي مرتين خلال الشهر أو ربما أكثر، مدعيّا أنه قد قرأ "وجبة سريعة" من كافيتريا الثقافة العامة في الانترنيت أو سمع مناظرة هنا أو هناك من كتب هذا المذهب أو ذاك، فيكتب شخص لم يتجاوز العشرين من عمره "أنا كنت سلفي وثم لما بحثت أكثر في هذا المذهب اكتشفت أن المذهب الأشعري هو الحق"
على الرغم من أن النزوع الفطري هنا لن يكون مبررًا له فمن باب أولى الاختيار النظري.
ولهذا تمظهرات أكثر وأعمق أيضًا.
#الغيث_الشامي
______
¹ معنى الحياة في العالم الحديث، 258.
ترتكز أنماط التدين المعاصرة على «التجربة» الروحانية بدلاً من العقائد الصلبة والطقوس والشعائر المنظمة وهذا ينسجم مع التيار الثقافي السائد الآن، الذي يرى أن للجميع الحق في تطوير صورته الخاصة في الحياة، تأسيسا على شعوره بما هو مهم أو ذو قيمة، أي مفهوم فردانية تحقيق الذات، وهو كذلك يعد طريقة مفيدة لمواجهة السيولة المفرطة لتعددية العقائد الدينية، وانعدام الوثوقية، وانهيار الأسس اليقينية للتدين التقليدي، بسبب شيوع النسبوية الذاتية، وبتأثير ما يسميه "بيتر برغر" تعددية عوالم العيش الحياتية
حيث إن يقينية المعتقد الدينية وصلابته تترسخان بقوة أدلته ورسوخها في الفطرة والسياق الإلزامي الاجتماعي التربوية الذي يأخذ هذه القيم، أما في واقع اليوم فأفضل توصيف لوضعنا -كما يقول برغر- هو أنه "سوق"
- معنى الحياة في العالم الحديث، عبد الله الوهيبي، بتصرف مني.
فالمدخلات العصرية التي اقتحمت اللاوعي أو الوعي الإنساني في هذا العصر دون أن يدري كثير من الناس أنها قد دخلت إليه بالفعل، قد شيّدت فيه بنية شكيّة ذوقية بامتياز، فإن ما يكسب الأمور أهميتها ليس مفهوم موضوعي يتعلق بها يمكن لعقلي أن يدركه بالدليل الصحيح، إنما مجرد شعوري وذوقي، وبالتالي فكل ما يصادم هذا الذوق أو الشعور فإن هناك تيار موجود في "منيو" العقائد يقدم البنية للتشكيك فيه تحت ضوء "الاختلاف" ولو كان الاختلاف هذا مختلقًا، على مبدأ "لولا الاختلاف لبارت السلع"
بل هناك من الأفكار السائدة ما فتحت الباب للشك بأي فكرة واعتقاد أن الحقيقة الموضوعية لم تعد موجودة والأمر كله ذوقي فردي أو اجتماعي، وأن الفكرة تكتسب قيمتها من الأشخاص المعتنقين لها لا العكس.
وهذا يفسر ظاهرة "أحس" التي صارت تعتبر نوع من الأدلة على صحة وجهات النظر الأخلاقية بل والتعصب لها "من باب خلق معنى" وهذا المعنى غالبًا ما يكون عائدًا إلى الذات لا إلى شيء ورائها، كأن يكون دفاع عن حق شخصي.
#الغيث_الشامي
"يمكن وصف نمط التدين المعاصر إجمالًا - أنه تدين شخصي يغلب عليه
الطابع التسوقي واالتحرري من الإطارات المؤسسية، فهو بلا انتماء لجهة ذات سلطة أو كيان اعتباري، كما أنه يتمحور على حرية الخيار الفردي، وأولوية الاحتياجات الذاتية النفسية، ويلفق أفكاره ومعتقداته من رموز وعقائد وتعاليم تنتمي إلى تقاليد دينية وروحانية متعددة، ويولي عناية خاصة للجوانب التجريبية في الدين، والجوانب المتصلة بإدارة الذات، والفاعلية الشخصية، والنجاح الحياتى" اه (1)
قد ذكرت في مقال تنزيه الدين عن التدين (2)، ظاهرة انتقال الصورة الذهنية لما ينبغي أن يكون عليه "الدين الحق" من معايير فطرية كلية مجملة "كالتوحيد والأمر بالطيبات والنهي عن الفواحش بما يوافق الفطرة إجمالًا" كمثال، إلى معايير عصرية "إنسانوية" ليبرالية أو أحيانًا علمانية!، كما أن مفهوم الدين الحق لم يعد له علاقة بالحقيقة أصلًا، بل هذا المفهوم أصبح يعطي دلالة نفعية بمعنى "الدين الذي يستحق أن يٌعتنق" وأما اعتبار الدين كحقيقة قاضية على كل الحقائق المناقضة لها بالبطلان فهذه تعتبر اليوم خطيئة تقع بها "الأصولية" "الرادكالية" أو ما نسميه نحن "السلفية - الأثرية".
______
(1) معنى الحياة في العالم الحديث
(2) مقال تنزيه الدين عن التدين - منصة سراج
وفي هذا الباب أيضًا يمكن مراجعة صوتية "الإله المعتنق للإنسانوية"
الروابط في أول تعليق
#الغيث_الشامي
"ضيقت العلمنة من أبعاد الوجود، وانحسرت تبعا لذلك آفاق التاريخ
الذي يعلو على الوجود المرئي، وبقي الإنسان وحيدا أمام شرور العالم، يرزح تحت نقائصه المستشرية، ويكابد ليبتكر معنى لحياته وآلامه، ويختلق غاية يتعزى ببلوغها عن كآبة الطريق."
- عبد الله الوهيبي، معنى الحياة في العالم الحديث.
وهذا يفهمك الحماسة الشرسة عند بعض الملاحدة في قضايا الجندر سواء كانت النسوية أو الش_ذو_ذ حيث أنها تخلق معنى لحياة معتنقها من حيث أنه يعتقد أنه واقع تحت مظلومية وأنه من الأقليات وصاحب قضية "عادلة" مع أن هذا كله لا معنى له على دينه ولو طرد أصوله لفهم أنه يبحث عن سراب وأن الأمر سيان، كيف لا وهو غارق في الأساس ومن أصل الدعوى التي يدافع عنها بنسبية الفطرة والعقل والأخلاق وذوقية القيم.
#الغيث_الشامي