في مسألة (التحسين والتقبيح العقليين)، وعلاقتها بنقاش الملاحدة والسؤال الموجه للملحد: (ما الذي يمنعك من أن تزني بمحارمك؟)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"لو لم يكن حسن الفعل وقبحه لمعنى يعود إليه، للزم ترجيح الشارع لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، ولجاز أن يأمر بالشرك والكذب والكفر، وينهى عن الصدق والعدل والتوحيد، ولكان لا فرق بين هذا وهذا، ولا فرق بين النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بين تحليل الطيبات وتحليل الخبائث، ولا بين تحريم الخبائث وتحريم الطيبات، ولم يكن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، إلا بمنزلة أن يقال: يأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، ويحل ما يحل، ويحرم ما يحرم، ولكان يجوز أن يأمر الله تعالى بالفحشاء، ويحب الفساد، ويرضى لعباده الكفر؛ إذ الجميع عند النفاة سواء لم يختص بعضها بصفة يكون لأجلها لا حسنة مأمورا بها محبوبة، ولا سيئة منهيا عنها مكروهة. وهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار عقلا وشرعا.
ولوازم هذا القول الفاسد أكثر من أن يمكن حصرها فإن هذا القول مبناه على أن جميع الأعيان والأفعال سواء في نفس الأمر، ليس لبعضها صفة توجب أن يفضل بها على الأخرى حتى يحب الله تعالى هذا ويأمر به، ويبغض هذا وينهى عنه.
ومن تدبر القرآن العزيز وجده مخالفا لهذا القول، بل هذا مخالف لما فطر الله تعالى عليه العقلاء، ولهذا لم يعرف هذا القول عن أحد من سلف الأمة وأئمتها الأربعة ولا غيرهم. بل قد ذكره أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني، وغيرهما من أهل الحديث والسنة - من البدع المحدثة في الإسلام، وأضافوه إلى أبي الحسن، وعدوه مما ينكر على أبي الحسن.
قال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]. وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين • ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35، 36]. وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]."
- شرح الأصبهانية، ص535، ط آل غيهب.
--
قلت: أولًا إن كنت مهتمًا بالرد على الملاحدة بطريقة سنية خالصة، فهذا الكتاب ينبغي أن تكون قرائته من أولوياتك وفكرة الكتاب هو نقد وتقويم أدلة المتكلمين على وجود الله وصفاته وكماله التي صاغوها للاحتجاج على الملاحدة وقويم طريقة المحاججة من جهة المقدمات والنتائج بل والسلوك وطريقة العرض وغير ذلك من القضايا المنهجية ذات الصلة وبيان أفضلية طريقة القران وأهل السنة على طريقة المتكلمين في الباب.
ثانيًا، هذا الكلام المنقول أعلاه له علاقة بحجة يحتجها أتباع الأديان على الملاحدة فيقولون له: إلحادّيا ما المانع أن تزني بأمك؟
وأقول هذا الاعتراض في نفسه اعتراض صحيح لكن قد يُبنى عليه باطل:
فعندما يقال فيصح أن يقصد به:
- الملاحدة ليس لهم مرجعية أخلاقية مطردة ذات معنى ولها مسوّغ عقلاني لكي تُتَّبع: فاحتجاجهم بالفطرة الإنسانية ليس بشيء في ظل قولهم بأنها أصلًا تتطور وتتغير ونتاج عشوائية عمياء، واحتجاجهم بإجماع الناس ليس بشيء لأن المجتمعات لها اجماعات تنقض بعضها بعضًا وهناك إجماعلات لا أخلاقية باتفاق بل بعضها تجمع على أن الإلحاد نفسه قرار خاطئ أخلاقيّا، وإن قيل مصالح الناس قيل هي تتعارض وتختلف بين الأفراد والتيارات والمجتمعات بحسب أهوائهم وآرائهم، وإن قيل نغلب مصلحة الأكثرية نقول فهذه القاعدة نفسها من أين أتيتم بها؟! سنعود إلى نفس الدائرة.
- لو فرضنا أن الملحد استطاع أخيرًا أن يأتينا بمرجعية أخلاقية صحيحة، فالسؤال الثاني لماذا علي أن ألتزم بها إذا قدرنا غياب عين القانون عني؟ أو لو قدرنا أنني طاغية لدي قوة أعلى من القانون؟ فإذا سيكون ما تم فرضه على أنه أخلاقي بلا مسوغ صحيح ليس بأخلاقي أصلًا بالنسبة لي ولا يوجد ما يلزمني به ولي أن أخالفه، بل وكون القانون مفروض بالقوة لا يعني أنه صحيح في نفسه أصلًا بل تصحيحه بهذا محض مغالطة الاحتكام إلى السلطة.
● ومن الخطأ أن تبني على ذلك أن قبح الفعل ليس ظاهرًا بشكل فطري وأنه ليس هناك نفور فطري منه وأن قبحه لا يعرف إلا بعد الأمر الإلهي الشرعي!
لكن ليس للملحد تحديدًا أن يحتج بالفطرة عليك لوجوه ذكرت بعضها وسأكمل:
- وللملحد أن يقول: أنا أجد نفورًا خلقيّا فطريّا من فعل هذا، وهذا ما يحجزني عن فعله، كما أجد نفورًا من أكل القاذورات لذلك فإنني فعلًا لن أريد ذلك ولا أحتاج مصدر خارجي يمنعني منه أصلًا، فهل أنت أيها المتدين تمتنع عن ذلك فقط لأن دينك منعك؟!
وهنا لك أن ترد عليه بعدة مسالك، منها:
- هل تسلم أن فطرتك هذه مشتركة بين الناس، فإن قلت نعم قلنا، فنحن نجد وجود الله فطريّا في نفوسنا ونزعم فيه كما تزعم وظهوره في المجتمعات كظهور امتناع الناس عن الزنا بأمهاتهم فلماذا قبلت هذا ورفضت هذا ومصدرهم واحد؟، فإن قلت الفطرة نسبية قلنا إذا ليس لك أن تشنع على المؤمنين بأنهم يحتاجون مصدرًا زائدًا على فطرتهم لكي يمتنعوا عن هذا الفعل وأنت من تقول أن هذه الفطرة غائبة عند بعض الناس، فهذا تناقض منك.
الثاني أن يقال: فنحن نقول أن هذه الفطرة تنتكس كما هو حاصل في المجتمعات الغربية، فإذا انتكست فطرة أحد فكيف لنا أن نقنعه بلا دين أن هذا الفعل خاطئ؟ وقبيح ولا ينبغي؟ ليس هناك مسلك إلحادي لهذا، وقس عليه كل القبائح الأخرى التي اتفقنا أنا وأنت أنها جرائم.
فنفورك أنت ليس حجة على غيرك إلا إذا أضفت مقدمات ميتافزيقية ستحتاج أن تدافع عنها حينها وتؤمن بها وتطردها وتلتزم كل لوازمها وحينها لنا أن نحاجك بها.
ثالثًا، نقول له إنك تزعم أن نفورك من الألم النفسي الناتج عن إدراكك لقبح هذا الفعل يمنعك من ارتكابه، والمؤمن يزعم أنه ينفر من الألم الجسدي والنفسي الناتج وهو ألم إدراكه لقبح الفعل + عقوبة الله له الحاصلة في الآخرة جسدّيًا ونفسيّا فدافعه للترك أعظم من دافعك وألزم، لكن كلاكما تشتركان في أنهم تركتم الفعل دفعًا للمضرة سواء كانت جسدية أو نفسية فإن كنت تسمي هذا شيئًا زائدًا على نفس الفعل فليس لك أن تثرب على المؤمن فأنت مثله، والناتج عن الفعل ليس هو الفعل نفسه لأن السبب لا يكون هو نفس النتيجة كما هو واضح.
لكن هو يدعي أن نتائج هذا الفعل أقبح مما ترى أنت فيقول أنا إذا دوافعي للترك ستكون أكبر وإذا فأنت أقرب للوقوع بهذا الفعل منه على كل اعتبار، ومن كان أبعد عن القبائح والرذائل كان أخير وأصلح.
#الغيث_الشامي