وهو نظير ما وقع من المتكلمين الأوائل من نفي الزمان والمكان عن الله سبحانه لتتكيف صفات "صانعهم العدمي المزعوم" مع باقي النظرية التي جاء ليسد فراغًا فيها "ألا وهو حدوث الجواهر والأعراض" وقطع السلسلة السببية، وهو كما ترى تصور شبيه بالربوبية الفلسفية.
"ولا شك أن اعتقاد الطبيعيين المعاصرين بأن الزمان والمكان شيئان ماديان موجودان في الواقع خارج الذهن "قائمين بأنفسهم" ممتزجان فيما صورته الهندسية هي نموذج «الزمكان» النسباني، وأنهما في الوقت نفسه قد حدثا في نقطة الانفجار المزعوم بعد أن لم يكونا، هذا الاعتقاد كان له أثره البالغ على عقيدة جهمية العصر في صفات الله عز وجل، فقد باتوا يقولون إنه لا يسأل عنه «بأين و بمتى»، إذ ما دام «الزمكان» هذا (على عقيدة من قلدوهم من الطبيعيين) مخلوقا حادثًا بعد أن لم يكن، فلا يصح أن يقال (على عقيدة أكثر طوائف الجهمية) إن الله في جهة العلو أو إنه فوق السماوات والأرض وفوق العرش على الحقيقة، أو حتى أن يقال كما صح عن رسول الله لما سأل الجارية في الحديث المشهور «أين الله»، لأن «المكان» مخلوق حادث!"(1)
ومثال ذلك ما تلبس به بعض الإعجازيين المشاهير وروجوه بين العامة حتى بات من المستغرب أن تصرف العامي عنه، رغم أن العامي لا يتصور أن هذا يناقض اعتقاده الفطري بأن الرب سبحانه في السماء بائن عن خلقه وهم في جهة حقيقية منه واقعيّا وهي السفول.
فمثلًا:
"قال زغلول النجار في هذا المعنى في برنامج من برامجه التلفزيونية تحت عنوان «وما ينطق عن الهوى»، والحلقة بعنوان «الله منزه عن المكان والزمان»:
لا يحده المكان لأنه خالق المكان ولا يحده الزمان لأنه مبدع الزمان، لا تشاكله المادة والطاقة لأنه خالق كل من المادة والطاقة.... فالله تعالى منزه عن حدود المكان والزمان منزه عن حدود المادة والطاقة، مغاير لجميع صفات خلقه ولكل وصف لا يليق بجلاله..
قلت: فما معنى الا يحده كذا؟ ومنزه عن حدود كذا» في كلام الرجل؟
المقصود ما عليه الجهمية من أنه لا يوصف بأن له مكانا أو جهة أو نحو ذلك، على أي معنى من معاني تلك الكلمات (بما في ذلك ما يرادف في اللغة قولنا إنه سبحانه في السماء أو في جهة العلو على الوجه اللائق بذاته)، أو بأنه يصح أن يوصف في زمان بوصف ما وفي زمان آخر بوصف آخر (كما هو الشأن في صفات الأفعال، كقولنا إنه سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، فيوصف في الليل بما لا يوصف به في النهار)، بل يلزم الجهمية المعاصرين أنه لا يوصف بأنه افعل كذا وبأنه سيفعل كذا أصلا، تبعا لما قبلوه من فلسفة النسبيتين عند الطبيعيين!"(2)
فبعد أن قبل هؤلاء من الملاحدة قولهم إن الوجود الفيزيائي "بمعنى القابل للدراسة تحت ما يسمى علم الفيزياء" والتنظير القياسي بوضع نماذج تفسيرية مبنية على الشاهد لتفسير كل ما غاب عنا في كل ما يسمى "زمان أو مكان" على أنه هو موضوع هذا العلم وكل ما يسمى مادة "أي متعين خارج الذهن" وتكييف الموجودات كلها لتكون خاضعة لتصور وجودي قياسي شامل وهو النموذج الذري أو أن الموجودات المتعينة على قسمين "مادة وطاقة" محمولة على موجودات عدمية لا متعينة هي في ذات الوقت مادية ولها هندسة وهي "الزمكان"، صار لزامًا عليهم أن يخرجوا الرب من أن يكون مادة لهذا العلم، وأن يخضع لهذه النماذج التفسيرية، فقالوا إذا الإله منزه عن أن يكون مادي وحسبك بإجمال هذه الكلمة وهي نظير نفي المتكلمين لأن يكون الرب "حسي" والعجيب أنهم يفترض أن ما نفوه يقابله أن يكون الرب موجودًا لكنه ليس خاضعًا للدراسة الفيزيائية وأنواع الأدلة والتفسيرات في هذا العلم، لكن النفي هنا صار يقابله "أن يكون معنويّا" حيث لم يعد بينه وبين المعنويات أي فرق من حيث معنى الوجود!.
فنحن نقبل منكم المعادلات التي تم بنائها وصفيّا للواقع، وأما الحمولات التفسيرية الغيبية التي تم بنائها على مسلماتكم البردايمية المعرفية ونظرتكم الطبيعية الكلية للوجود، فنحن نقبلها منكم أداتيّا كشيء مستورد مع هذه المعادلات، ولا نقول أنها أفضل تفسير وجودّيا ولا أنها مطابقة للواقع، وهذه النظرة للعلم باتت تسمى اليوم "anti realism" فنحن لا نعتبر كل الخيالات التفسيرية للبشر في الغيب الغير محسوس مطابقة للواقع لمجرد تشابهها معه في وجه من الوجوه أو قابلية تفسير ما يظهر لنا من آثار ذلك الغيب على شيء يمكن تشبيهه بشيء من عادتنا لا بد أن يكون ذلك التشبيه إذا صح من وجه صح من كل وجه وصار مطابقًأ للواقع حتى يثبت العكس أو غيرها من النظريات المعرفة في هذا الباب!
إنما نقبل منكم ما علمنا مشابهته وفائدته في وصف النظاميات المطردة تحت عادتنا وحسنا، "فالمعادلات الرياضية في النظرية الفيزيائية إنما هي نمط ذهني مصطنع في العقل من أجل أن يحاكي نمطا واقعيا لبعض الطبائع، كما هو واقع تحت الحس والعادة. هذا النمط الواقعي في الأعيان، يتعذر علينا غالبا أن نبني الأنموذج الذهني الرياضي المحاكي له من دون أن نفرض له تصورا قياسيا ما، لكيفيته وحقيقته. فإذا تمكنا من بناء الأنموذج الرياضي بحيث يكون على قدر كبير من دقة المحاكاة للنمط الطبيعي المطرد محل البحث، ووجدنا تلك المعادلات نافعة وقائمة بالمطلوب في التنبؤ بذلك النمط، لم يلزم من ذلك أن يكون التشبيه أو التصور القياسي الذي فرضناه وأسسنا عليه ذلك الأنموذج، مطابقا للواقع. بل يتصور في العقل أن يمتنع الترجيح بين ذلك التشبيه أو القياس وخلافه مما يفرضه الناس في نفس الأمر، من طريق الحس والعادة والمشاهدة، مهما كانت المعادلات المبنية عليه محاكية للواقع موافقة له في تطبيقاتنا." (3)
وأما من سلموا للملاحدة بجعل كل الزمان والمكان مسرحًا لخرافاتهم وعقائدتهم العفنة وخيالاتهم الدهرية يعاملون فيه ما كل ما غاب على أنه شاهد شهادة "مباشرة" ولو كانت عندهم في حقيقة الأمر مغرقة في التأويل والفرض فوق الفرض والظن فوق الظن، صار لزامًا عليهم أن تتبع عقائدهم هذه الخيالات وأن يصبح صانعهم العدمي فأر تجارب لهؤلاء الملاحدة، يملون عليهم ما يليق به وما لا يليق، فتارة يصير لا يليق به أن يوصف بمعاني الزمان كأن يقال "هو موجود الآن" أو كان موجودًا "قبل" أن يخلق العالم بكذا وكذا من الزمن، وتارة يقولون لهم، صانعكم لا يمكن أن يخلق العوالم بعد عدمها استقلالًا بالكلمة بل لا بد من مادة تكون هي شرط ومحل قدرته ليخلق بحيث لو فنيت هذه المادة فنيت تبعًا لها قدرته على الخلق وامتنعت!، وتارة يقولون لهم، إن نظرياتنا قد ملأت كل الوجود فلم يعد لصانعكم مكانًا فيها فنزهوه عن المكان!.
والله المستعان.
الإحالات: __________
(1) معيار النظر 7\11، أ.د. أبو الفداء ابن مسعود.
(2) معيار النظر 7\12، أ.د. أبو الفداء ابن مسعود.
(3)مقال "في قولهم: كيف تسقطون الاعتقاد الوجودي في نظرية ما، ومع ذلك تقبلون معادلاتها؟"
#الغيث_الشامي