قد رأيت بعض المشايخ الفضلاء ينسبون للإمام الدارمي وابن خزيمة القول بأن النفس صفة "زائدة على الذات" وأنهم خالفوا غيرهم في أن النفس هي الذات، وأزعم أن هذه النسبة خطأ عليهم رحمهم الله ولو كان قد قال غيرهم بذلك.
وبيان هذا الخطأ من وجهين:
أن معنى الصفة لغةً قد يقع على كل معنى يخبر فيه عن شيء ما أو ما يسمى محمول على موضوع ما أو مبتدئ وخبر، وأما شرعًا فهو المعنى الذي أضيف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف موقوفًا لفظًا ومعنى (بخلاف الخبر الذي يكون التوقيف فيه على المعنى وأما اللفظ فهو على جهة التفسير باللزوم أو التضمن مع كونه لغةً يصح أن يسمى صفة أيضًا ولا إشكال )، ومن الإضافات ما تكون إضافة ملكية وتشريف كقولنا "خَلقُ الله" و"بيت الله"، وناقة الله.
فيقال الله موجود كما يقال الله سميع، ولا أحد يجادل في أن الوجود ليس "بعض" الذات الموصوفة به إنما هو جامع لكل صفات الشيء في الخارج وإنما يفرق بينه وبين باقي الصفات في الأذهان وحسب!
وحقيقة الصفات تختلف فمنها ما يعبر عن نفس الثبوت بالصفات كلها في الخارج كالوجود والنفس والقيام بالذات ومنه ما يعبر عن معنى واحد من بين كل الصفات الأخرى القائمة بالموصوف مثل السميع، وهذه أبحاث وتجريدات ذهنية كلامية لم يأبه السلف بها (ولا أقول ما عبروا بها إنما لم يأبهوا بنفس هذه القسمة إلا بشكل ذهني محض إن وردت على ألسنتهم)، فالسلف عندهم كل هذه تسمى لغة صفات وتضاف إضافة الصفة إلى الموصوف، الوجود والسمع والبصر والنفس، ولكن الاختلاف هو في دلالة معنى الصفة فهل يدل على كل الصفات أم يدل على صفة واحدة من بين الصفات وهكذا.
وتحرير القول في صفة النفس عند الإمام الدارمي وابن خزيمة أنها معنى جامع لكل الصفات وزيادة، أو بتعبير آخر الذات وزيادة.
وماذا نقصد ب"زيادة" هنا؟ نقصد ما يقال له الضمير، أو الإضمار كما في قوله تعالى على لسان نبيه عيسى عليه السلام "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك"، فهنا ذكرت النفس بسياق ما يخفيه الله عنا في نفسه من العلم، فالنفس قد تكون نفسا حية تضمر في نفسها علم ورحمة وغضب ورضا وقد تكون جماد محض لا تضمر شيء.
والله له نفس حية وله علم وغضب ورضا ولذلك صفة النفس تشمل كل الصفات ومافيها من إضمار علم وذكر في النفس وغير ذلك.
فلا يقال إن الإمام الدارمي يقول إن النفس كل الصفات أو الذات أو هذا فقط أو ذلك فقط، بل قسمة الذات والصفات قسمة كلامية، فأهل السنة عندهم الذات والصفات في الخارج هما شيء واحد وهو الله سبحانه بكل صفاته وليس الله وصفاته أو الذات والصفات كما قال الإمام أحمد:
"الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 140)
قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره"
ويقول الإمام الدارمي:
"«قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، إذا ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ؛ ذكرته في ملأ خير منهم»
فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يخفي ذكر العبد في نفسه إذا أخفى ذكره، ويعلن ذكره؛ إذا هو أعلن ذكره، ففرق بين علم الظاهر والباطن، والجهر والخفى، فإذا اجتمع قول الله وقول الرسولين عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم- فمن يكترث لقول جهم والمريسي وأصحابهما؟ فنفس الله، هو الله.
والنفس تجمع الصفات كلها، فإذا نفيت النفس؛ نفيت الصفات، وإذا نفيت الصفات؛ كان لاشيء."
[الدارمي، أبو سعيد، النقض على المريسي ت الشوامي، صفحة ٣٣٠]
وقال الإمام ابن خزيمة:
" وزعم بعض جهلتهم أن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه، وزعم أن نفسه غيره، كما أن خلقه غيره , وهذا لا يتوهمه ذو لب وعلم , فضلا عن أن يتكلم به قد أعلم الله في محكم تنزيله أنه كتب على نفسه الرحمة , أفيتوهم مسلم أن الله تعالى كتب على غيره الرحمة؟ وحذر الله العباد نفسه , أفيحل لمسلم أن [ص:20] يقول: أن الله حذر العباد غيره؟ أو يتأول قوله لكليمه، موسى: {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41] , فيقول معناه: واصطنعتك لغيري من الخلوق، أو يقول: أراد روح الله بقوله: {ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] أراد ولا أعلم ما في غيرك؟ هذا لا يتوهمه مسلم , ولا يقوله إلا معطل كافر"
وقال: " فأعلمنا الله أنه أنزل القرآن بعلمه، وخبرنا جل ثناؤه أن أنثى لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه، فأضاف الله جل وعلا إلى نفسه العلم الذي خبرنا أنه أنزل القرآن بعلمه"
ومعلوم أن الإمام ابن خزيمة حين قال أن الله أضاف العلم إلى نفسه لم يقصد أنه أضاف العلم إلى صفة من صفاته بل أضافها إلى ذاته التي هي نفسه! فأي عجمة يظنها البعض في الإمامين إذ يظنان أن نفس الشيء صفة من صفات نفسه!! فحينها تكون غيرها من الصفات لا يصح أن يقال أنها من نفس الله بل هي قسيمة لها!
ويقول أيضًا: " ذكر نفسه جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه وعز عن أن يكون عدما لا نفس له."
فكما ترون أتى بالنفس في سياق أنها معنى يجمع كل الصفات وأن نفيها لا يكون نفي صفة واحدة عن الذات مع بقاء أصل الذات كما هو في المفهوم الكلامي بل يحيل الذات إلى العدم المحض، ويزيد عليه بأن تلك النفس الجامعة لكل الصفات "أي الذات القائمة في الأعيان" يحصل فيها الإضمار، فالله وصف نفسه بأنه يحصل فيها إضمار وإخفاء لعلم وكلام عن المخلوقات.
وختامًا أنقل هذا الاقتباس من كتاب "معيار النظر عند أهل السنة والأثر" في حقيقة إضافة الصفات إلى الموصوف في اللغة:
"ومعلوم أن الصفة تطلق ويراد بها حقائق متفاوتة في أنواعها وما في الواقع مما تتعلق به في الذهن، فصفة القوة مثلا تتناول متعلقا خارجيا (أي تأثير الشيء على غيره) بخلاف ما تتناوله صفة السرعة (وهي صفة لحركة الشيء نفسه)، وهذه وتلك تتناولان متعلقين بخلاف صفة الحسن أو القبح مثلا! هذه الحقائق المتفاوتة أشد التفاوت في الذهن كما في الخارج، كلها تجمعها كلمة «صفة» في لغات البشر"
#الغيث_الشامي