مجموعة آثار منهجية في الجدل والكلام والتعامل مع أهلهم
670 - حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري النحوي قال: حدثني أبي , عن أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون , وعنده بشر المريسي , فقال المأمون: ناظر بشرا في الرأي , فقال العتابي: يا أمير المؤمنين " الإيناس قبل. . . . فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه , ولا يذم على خطأه , لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر , ولكنه يبسط بالمؤانسة , ويبحث بالمثاقبة فقال له: ناظر بشرا في الرأي , فقال العتابي: يا أمير المؤمنين , إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق واختلافا في آرائهم , وأنا واصف لأمير المؤمنين ما اعتقده من ذلك لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين. إن أمر الديانة أمران: أحدهما لا يرد إلا جحدا , لأنه القرآن , وهو الأصل المعروض عليه كل حجة. وعلم كل حادث لا نرد سؤل من انتحله حجة , فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها , أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اختلاف فيها , أو إجماع من العلماء , أو مستنبط تعرف العقول عدله لزمهم الديانة به , والقيام عليه , وما لم يصح فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها , ولا سنة تلزمهم الديانة بها , ولا القيام عليه كان عليهم العهد والميثاق في الوقوف عنده , كذلك نقول في التوحيد , فما دونه , وفي أرش الخدش فما فوقه , فما أضاء لي نوره اصطفيته , وما عمي عني نوره نفيته , وبالله التوفيق. فقال المأمون: اكتبوا هذا الكلام , وخلدوه ببيت الحكمة "
الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 537)
677 - حدثني أبو صالح قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن داود قال: حدثنا أبو الحارث قال: سألت أبا عبد الله فقلت: إن ههنا رجلا يناظر الجهمية , ويبين خطأهم , ويدقق عليهم المسائل فما ترى؟ قلت: " لست أرى الكلام في شيء من هذه الأهواء , ولا أرى لأحد أن يناظرهم , أليس قال معاوية بن قرة: «الخصومة تحبط الأعمال , والكلام الرديء لا يدعو إلى خير لا يفلح صاحب كلام , تجنبوا أصحاب الجدال والكلام , عليكم بالسنن , وما كان عليه أهل العلم قبلكم , فإنهم كانوا يكرهون الكلام , والخوض في أهل البدع , والجلوس معهم , وإنما السلامة في ترك هذا , لم نؤمر بالجدال , والخصومات مع أهل الضلالة , فإنه سلامة له منه»
الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 539)
> قناة | الغيث الشامي (طالب علم):
679 - وأخبرت عن أبي عمران الأصبهاني قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " لا تجالس صاحب كلام , وإن ذب عن السنة , فإنه لا يئول أمره إلى خير , فإن قال قائل: قد حذرنا الخصومة , والمراء , والجدال , والمناظرة , وقد علمنا أن هذا هو الحق , وإن هذه سبيل العلماء , وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين , فإن جاءني رجل يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت , والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت , ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها , وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علما بها , وبصرا نافذا في كشفها , أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه , وأخليه وهواه وبدعته , ولا أرد عليه قبيح مقالته؟ فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحدا من ثلاثة: إما رجلا قد عرفت حسن طريقته , وجميل مذهبه , ومحبته للسلامة , وقصده طريق الاستقامة , وإنما قد طرق سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم , فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم , وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به , فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به , والشفا مما أوذي. . . . . . . إلى علمك حاجته إليك حاجة [ص:541] الصادي إلى الماء الزلال , وأنت قد استشعرت طاعته , وآمنت مخالفته , فهذا الذي قد افترض عليك توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين , وليكن ما ترشده به , وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين , وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة , وإياك والتكلف لما لا تعرفه , وتمحل الرأي , والغوص على دقيق الكلام , فإن ذلك من فعلك بدعة , وإن كنت تريد به السنة , فإن إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل , وكلامك على السنة من غير السنة بدعة , ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك , ولا تطلب صلاحه بفسادك , فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه , ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره , فمن أراد الله وفقه وسدده , ومن اتقى الله أعانه ونصره "
الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 540)
682 - حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن السري الكوفي قال: حدثنا عبد الله بن غنام , قال: حدثنا أبو عمران موسى بن عيسى الخياط قال: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث , قال: حدثني بعض أصحابنا , عن محمد بن النضر الحارثي , قال: قلت للأوزاعي: " آمر بالمعروف؟ قال: من يقبل منك قال الشيخ: صدق الأوزاعي رحمه الله , فهكذا قال علي بن أبي طالب عليه السلام: لا إمرة لمن لا يطاع , فإذا كان السائل لك هذه [ص:542] أوصافه , وجوابك له على النحو الذي قد شرحته , فشأنك به , ولا تأل فيه جهدا , فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاما في هذا الدين , فهذا أحد الثلاثة , ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيه حاضر تأمن فيه على نفسك , ويكثر ناصروك ومعينوك , فيتكلم بكلام فيه فتنة وبلية على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب , لأنه هو ممن في قلبه زيغ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة , وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه , إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته , ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به , فإن سكت عنه لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين , وإدخال الشك على المستبصرين , فهذا أيضا مما ترد عليه بدعته , وخبيث مقالته , وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة , ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته , وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته , فإن خبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصيدوا بها المؤمنين , فليكن إقبالك بكلامك , ونشر علمك وحكمتك , وبشر وجهك , وفصيح منطقك على إخوانك , ومن قد حضر معك لا عليه , حتى تقطع أولئك عنه , وتحول بينهم وبين استماع كلامه , بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه , فافعل.
الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 542)
683 - حدثني أبو صالح , قال: حدثنا محمد بن داود أبو جعفر البصروي , قال: حدثنا مثنى بن جامع , قال: سمعت بشر بن الحارث , سئل عن الرجل يكون مع هؤلاء أهل الأهواء في موضع جنازة , أو مقبرة , فيتكلمون , ويعرضون فترى لنا أن نجيبهم , فقال: «إن كان معك من لا يعلم , فردوا عليه لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون , وإن كنتم أنتم وهم فلا تكلموهم , ولا تجيبوهم , فهذان رجلان قد عرفتك حالهما , ولخصت لك وجه الكلام لهما , وثالث مشئوم قد زاغ قلبه , وزلت عن سبيل الرشاد [ص:543] قدمه , فعشيت بصيرته , واستحكمت للبدعة نصرته , يجهده أن يشكك في اليقين , ويفسد عليك صحيح الدين» فجميع الذين رويناه , وكل ما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه , فإنك لن تأتي في باب حصر منه , ووجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه , والإعراض عن خطأ به , لأن غرضه من مناظرتك أن يفتنك فتتبعه , فيملك وييأس منك فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه , فأخسئه بالإمساك عنه , وأذله بالقطيعة له , أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال له القائل: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين , فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني , فإن كنت قد أضللت دينك , فالتمسه. وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعض أهل الأهواء , فقال له: أما أنا فعلى بينة من ربي , وأما أنت فشاك , فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه , ولا أغيظ لقلبه من مثل هذه الحجة؟ والجواب: أما سمعت قول مصعب بن سعد: لا تجالس مفتونا , فإنه لن يخطئك إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتبعه , وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه " وأيوب السختياني حين قال له الرجل: أكلمك بكلمة , فولى عنه , وأشار بإصبعه: ولا نصف كلمة , وعبد الرزاق حين قال لابن أبي يحيى: القلب ضعيف , وليس الدين لمن غلب.
684 - حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد الفزاري قال: حدثنا عبد الله بن خبيق , قال: حدثنا عبد الله بن داود , قال: قال الأعمش: السكوت جواب , حدثنا ابن دريد , قال: حدثنا الرياشي , قال: حدثنا الأصمعي , قال: سمعت شبيب بن شيبة , يقول: «من صبر على كلمة حسمها , ومن أجاب عنها استدرها , فإن كنت ممن يريد الاستقامة , ويؤثر [ص:544] طريق السلامة , فهذه طريق العلماء , وسبيل العقلاء , ولك فيما انتهى إليك من علمهم وفعلهم كفاية وهداية , وإن كنت ممن قد زاغ قلبه , وزلت قدمه , فأنت متحيز إلى فئة الضلالة , وحزب الشيطان , قد أنست بما استوحش منه العقلاء , ورغبت فيما زهد فيه العلماء , قد جعلت لقوم بطانتك وخزانتك قد استبشرت جوارحك بلقائهم , وأنس قلبك بحديثهم , فقد جعلت ذريعتك إلى مجالستهم , وطريقك إلى محادثتهم , إنك تريد بذلك مناظرتهم , وإقامة الحجة عليهم , ورد بالهم إليهم , فإن تك بهرجتك خفيت على أهل الغفلة من الآدميين , فلن يخفى ذلك على من يعلم خائنة الأعين , وما تخفي الصدور»
الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 543)
#الغيث_الشامي