سلسلة: مسالك المنافقين في تزيين باطلهم - الجزء الثاني

6 وقت القراءة


الأسلوب الثاني: وهو زُخرف القول، وبعبارة أخرى حصان طروادة، فلا تظن أبدًا أن صاحب الباطل سيظهر لك ما به تكرهه وتنفر منه.

وهذا الأسلوب يتلخص بعدة نقاط:

- تسمية الباطل بأسماء تعبر عن قضايا عادلة موافقة للفطرة أو جزئها الظاهر وعنوانها العام موافق للفطرة (كالعدل مع المرأة، والدفاع عن الإسلام مقابل الشبهات، وإظهار الإسلام بصورة لا تنفر الناس منه)

بل بعض هؤلاء إذا رآك تنتقد تأويلاته وتحريفاته للدين اتهمك في دينك وزعم أنك تريد تشويه الناس، فمثلا الجهمي إذا رآك تنتقد براهينه البدعية التي يقدمها للملحد في المناظرة ولها لوازم كارثية تهدم الاعتقاد كله، اتهمك أنك تريد هدم الإسلام وإظهاره بصورة الدين الضعيف الذي لا دليل عليه وأنك حشوي لا تدرك أغوار المعقول والمحسوس.

- تسمية الحق بأسماء تنفر منها الفطرة والتعبير عنه بأقبح العبارات والحط من أهله والسخرية منهم تمهيدًا لإسقاطه من قلوب الناس.

- نسبة أقوال الباطل إلى المعظمين زورًا وبهتانًا أو الدعوة إلى تقليد زلات العلماء وجمعها من هنا وهناك كلها في إطار واحد لتوافق آيديولوجيا معينة يراد الانتصار لها (كما يقال من تتبع الرخص تزندق)

لأن من يبيح كذا يحرم كذا ومن يحرم كذا يبيح كذا، أما أن تجمع كل ما أباحه العلماء كله في مذهب واحد ضاربًا عرض الحائط بأصولهم وطردها فهذا ليس إلا ضرب من الزندقة!

وربما هذا خطأ يقع به بعض الإخوة من باب إحسان الظن بالحق حيث يظنون أن صاحب الباطل ما وقع به إلا لأنه غبي، وإلا لو كان ذكيّا بما يكفي لكان لزامًا أن يسلم للحق ويقبله.

وهذا يخالف الواقع والتاريخ بل وقصص القرآن، حيث مكر أقوام الأنبياء بهم مكرًا كُبّارًا وكانوا من أشد الناس ذكاءً وقوة ودهاءً ولكن الله بقوته كان يحمي أهل الإيمان منهم.

فكما ذكرنا سابقًا هناك فرق بين الذكاء وبين كمال العقل بالانقياد والخضوع للحق، بل حقيقة هذه الفكرة سوء ظن بالشرع مقابل العباد وكأنك تقول البشر ليس لهم أهواء، وما إن ظهر الشرع لأحد وجب أن يتبعه لو كان ذكيّا، لكن الله سبحانه أخبر أن منهم بل أكثرهم يفهم الحق لكن الران الذي على قلبه من طبقات الكبر والجحود واستصغار المؤمنين يمنعه من قبوله.

وذكائهم هذا يظهر أشد ما يظهر في حربهم الضروس المستمرة على أتباع الرسل ودين الأنبياء بكل سبيل، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فتجده يغلف لك الباطل بقضايا حق في نفسها وتميل لها الفطرة وتستحسنها ثم هي في باطنها السم الزعاف الذي يمسخ الفطرة ويغطيها بالكلية، مثل رفضهم لظلم المرأة والإرهاب بل والكهنوت ودعوتهم للحرية والتفكير العقلاني والعلمي وإعادة قراءة الدين بشكل يجذب الناس إليه ويحببهم به ويسهل حياة الناس بما يتماشى مع مقاصد الشريعة.

فدائمًا لاحظ واسأل نفسك أسئلة حول الداعية الغريب الذي يقول أمورًا مثيرة للجدل، يبيح أمورًا اتفقت الأمة من زمن التنزيل إلى زمان قريب من زمان الناس هذا على حرمانيته أو العكس وتجد قرائن حاله تشير إلى أنه يميل بفتاويه لتحليل أمور تتماشى مع أيديولوجيا معينة مثل النسوية أو الليبرالية أو غيرها، فهذه قرينة واضحة على أنه مجرد حصان طروادة.

وأنا والله استغرب كيف يمكن أن يدخل على الناس أن فلانًا اكتشف أن الأمر الفلاني حلال بعد أن ضلت الأمة كلها وأجمعت على حرمانيته، أمثال دعاوى شحرور الغبية من حل الزنا وأمثال ذلك.

ويبدأ الأمر بإلقاء السمع إليه فضولًا وصدمة وربما يبدأ كارهًا ثم لا يلبث أن يوافق هواه وبالطبع سيوهم نفسه أنه مقنع ويعمي عينه عن كل ما سواه، بل هؤلاء أساسًا يلقنون أتباعهم أن علماء أهل السنة أغبياء حشوية لا يفهمون، يعيشون في الكهوف ولم يصلوا بعد إلى زمان التنوير ويأتونهم بزلاتهم ويشعرونهم أنهم مختلفون أشد الاختلاف فيما بينهم في كل قضية، وهكذا يكون قد تم ابتلاعهم بالكامل، وهكذا حال أتباع الدجال فسبحان الله.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة:

"{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112] فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعض من القول، ويفتريه الأغمار وضعفاء العقول، فذكر السبب الفاعل وهو ما يغر السامع من زخرف القول، فلما أصغت إليه ورضيته اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولا وعملا.

فتأمل هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر الذي فيه بيان أصول الباطل والتنبيه على مواقع الحذر منها، وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات المستحسنة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة، فيسمون أم الخبائث أم الأفراح، ويسمون اللقمة الملعونة التي هي الحشيشة: لقيمة الذكر والفكر التي تثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ويسمون مجالس الفجور: المجالس الطبية، حتى إن بعضهم لما عدل عن شيء من ذلك قالوا: ترك المعاصي والتخوف منها إساءة ظن برحمة الله وجراءة على سعة عفوه ومغفرته، فانظر ما تفعل هذه الكلمة في قلب ممتلئ بالشهوات، ضعيف العلم والبصيرة.

السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيسمى عدم الانبساط إلى الفساق: سوء خلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة وشرا وفضولا، ويسمون إثبات الصفات لكمال الله تعالى تجسيما وتشبيها وتمثيلا، ويسمون العرش حيزا وجهة، ويسمون الصفات أعراضا والأفعال حوادث، والوجه واليدين أبعاضا، والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أغراضا، فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة تلك الألفاظ المستكرهة تم لهم تعطيلها ونفيها على ما أرادوا.

فقالوا لضعفاء العقول: اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، ولم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه الرب تعالى عن ذلك، وقد اصطلحوا على تسمية سمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وحياته أعراضا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين أبعاضا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خلقه تحيزا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكليمه بقدرته ومشيئته إذا شاء، وغضبه بعد رضاه، ورضاه بعد غضبه: حوادث، وعلى تسمية الغاية التي يتكلم ويفعل لأجلها: غرضا، واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم، فلما صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم، وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم.

فأهل السنة هم الذين كشفوا زيف هذه الألفاظ وبينوا زخرفها وزغلها، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل، ولكن الطعام مسموم، فقالوا ما قاله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله: " لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين ".

ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنة ألقابا قبيحة، وسموهم حشوية، ومحيزة، ومجسمة، ومشبهة، ونحو ذلك، فتولد من تسميتهم لصفات الرب ; وأفعاله، ووجهه، ويديه بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب، ولعن أهل الإثبات من أهل السنة، وتبديعهم، وتضليلهم، وتكفيرهم، وعقولهم، ولقوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم، وهذا الأمر لا يزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو من حصل له من الأمة ثناء جميل ولسان صدق ; ليحليه بذلك في قلوب الجهال، فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، حتى إنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلم بالله منا، وبهذا الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى ترويج باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وإجلالهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم، ثم نفقوا باطلهم بنسبته إليهم، فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة قد نفقت في الوجود بسبب ذلك، وهم برآء منها.

وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس، فليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله قادهم إلى ذلك، وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة."

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق