هل ابن تيمية يقول بنسبية المعرفة؟


الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

القضية ليست بهذا الإجمال والسخافة التي يطرحها البعض عليه، أهل السنة وابن تيمية لا يقول بنسبية الضرورات على كل معنى ولا ينفونها على كل معنى بل يفصلون بهذا اللفظ المجمل:

1) المثاليين يقولون أن الضرورة هي صفة للجملة أو المعلومة بحد ذاتها مبنية على طبيعة هذه المعلومة وشروط منطقية معينة تحققت فيها (ثم يختلفون في تعيين هذه الشروط)

ابن تيمية يرد عليهم بأن المعرفة الضرورية بالمعلومة الفلانية هي حالة بالنسبة للعارف وليس بالنسبة للمعروف!

لأن المعرفة هي حالة ذهنية قائمة بالعارف فأيما معلومة كيفما كانت علمها علمًا ضروريّا ستكون علمًا ضروريا، وهذا قد يكون في بعض الناس دون البعض، يعني المعلومة نفسها لا يشترط إن كانت علمًا ضروريا عند شخص ما بسبب توافر أدلة وشروط قيام المعرفة الضرورية في نفس الأنسان أن تكون كذلك في كل العقول كما يذكر المثاليين (بسبب أنهم يرون أن الضرورة طبيعة في الجملة نفسها وليس في حالة العارف)

إذا ابن تيمية يقول بنسبية المعرفة؟ على هذا المعنى نعم

طيب ماذا عن نسبية المعرفة المعروفة اليوم؟ التي تقول أن العقل البشري ليس فيه ضرورات تعرف صحتها بنفسها بمجرد تأملها بناء على طبيعة وفطرة العقل في الإنسان Objective cognitive necessity ، إنما العقل يتكون بالكلية من التلقين الاجتماعي subjective social necessity أو intersubjective reality وليس في فطرته ترجيح شيء على شيء فضلًا أن تكون هذه الفطرة مشتركة بين البشر غريزيّا.

فابن تيمية يقول لا، إن من المعارف ما هو لازم معرفتها لكل بني آدم بفطرة العقل، مثل فهمهم أن العالم الخارجي موجود حولهم حقيقة لا وهمًا وأن الله في السماء وأن للعالم صانعًا وأن العالم مصنوع له.

فهذا هو جمع نصوص ابن تيمية، وكثير من الناس يدخل عليهم الاشتراك اللفظي في المقالات للأسف فيفهمون المقالات القديمة وكأنها هي مقالات معاصرة، وهذا ما بينته أثناء تحرير قول ابن تيمية في المعرفة القبلية والبعدية وخلط المعاصرين لها بمبحث nature vs nurture.

وهو نفس الغلط الذي وقع لبعضهم في جواب هذا السؤال نفسه أيضًا، فهو لا يرد على مذهب القائلين بفطرة العقل ولنسميها (الفطرة العينية المادية)، إنما يرد على نظرية المعرفة المثالية التي تجعل العقل يكشف واقع مثالي تتسم فيه المقولات والكليات بصفات خاصة فيها فتتسم جملة 1+1=2 بالضرورة ليس لأن الله فطر الناس وطبع عقلهم أنهم ما إن أدركوا هذا المعنى حتى حكموا بصحته بموجب كونهم عقلاء يفهمون المعاني منها ما يحصل بالنظر والعادة ومنها ما بمجرد ما ان اكتسب العقل هذا المعنى بالحس فهم وجه كونه صحيحًا بلا زيادة على ذلك وفهم ذاتيات المعنى واستحالة تخلفه في الغائب كما لا يتخلف في الشاهد وهذه ملكات وقدرات فطرية في العقل لا ينكرها ابن تيمية أبدًا وحسبك أن تذهب وتقرأ أي كتاب له (حرفيّا) لترى ذلك واضحًا من كلامه، إنما المثاليين الذين رد عليهم ابن تيمية يجعلون ضرورية 1+1=2 راجعة إلى ذاتها بنفسها بغض النظر عن طبيعة العارف بها وهذا من مثاليتهم وخلطهم لما في الأذهان بما في الأعيان.

باختصار: إذا قصدت بنسبية المعرفة أي كونها نسبة وصفة إلى الذات العارفة له طبيعة معينة في إدراكها والتعامل معها بناء على فطرته وطبيعته فهذا يقبله ابن تيمية ولا شك.

وإذا قصدت بنسبية المعرفة: أي عدم ضرورية الضرورات بالكلية لأن ما قد يكون عندك ضرورة في مجتمعك قد يكون فاسد في مجتمع آخر دون وجود عقل موثوق به قادر على الترجيح موضوعيّا بين النموذجين أو أي المجتمعين أصح ومثل ذلك في الأخلاق والأديان وقد يسمى أيضًا مذهب "تكافؤ الأدلة" وقد رد عليه ابن تيمية في مواضع كثيرة وابطله وهو بطبيعة الحال لا يقول به.

وبالمناسبة من تطبيقات تلك القاعدة الجليلة التي يفهمها من قرأ لابن تيمية، أنه حتى لو اتفق شخصين على نفس المعرفة فقد يكون أحدهم صواب فيها والثاني مخطئ!

ومثال ذلك تخرص الطبيعيين في عالم الغيب وما قبل نشأة العالم، فيأتي أحد أصحاب الإعجاز العلمي ليثبت أن هذه التخرصات توافق الكتاب والسنة بل وأنهم سبقوه إليها!، وحتى لو تنزلنا معه أن كلامه صحيح مع كونه رمى بفهم السلف عرض الحائط غالبًا، فإننا نعلم اختلاف مصدر المعرفة عند "العارف" من الطرفين، فالمسلم عرفها كعلم ضروري من الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق من علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما الطبيعاني فهو علمها من باب التخرص، فحتى لو أتٌّفق أن طابق علم المسلم بها علم الطبيعاني الدهري فهو من قبيل الصدفة وهي علم في حق المسلم وأعلى العلوم، وجهل وعماية في حق الدهري!

ولذلك يقال "كذب المنجمون ولو صدقوا"

هذا والله أعلم والحمد لله.

#الغيث_الشامي


إرسال تعليق