قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ومما ينبغي ان يعرف في هذا المقام وان كنا قد نبهنا عليه في مواضع:
أن كثيرا من العلوم تكون ضرورة فطرية فإذا طلب المستدل ان يستدل عليها خفيت ووقع فيها شك إما لما في ذلك من تطويل المقدمات وإما لما في ذلك من خفائها وإما لما في ذلك من كلا الامرين والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك إما لعجزه عن تصوره واما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الانسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وان أمكن نظم الدليل وفهمه فقد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما
وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات فكثير من الامور المعروفة إذا حدّت بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد"
- درء تعارض العقل والنقل.
___
قلت: فبين شيخ الإسلام أن الضروريات الفطرية هي من أظهر أنواع العلوم مع كونها قد تتفاوت فيما بينها في الظهور "فمثلًا ضرورة وجود الله سبحانه أظهر من ضرورة امتناع التسلسل عند عامة العقلاء مع كون الأخرى ظاهرة عند استحضار معناها إلى الذهن" لكن كلها تكون سهلة التصور قريبة من حيث الأصل والعقل يحكم بصحتها ضرورة عند تصورها التام، ويمكن أن يذكر بعضها ببعض لوجود التلازم الظاهر فيما بينها كذلك، أما إذا طولبت بالاستدلال ببعضها على بعض فهذا يلزم منه الدور والتسلسل والتناقض، فإن القول في بعض الضروريات كالقول في البعض الآخر من حيث عدم حاجتها للتأسيس المعرفي على غيرها.
وإذا أردت أن تستدل عليها بالنظريات لزمك الدور كذلك لأن النظريات لا تقوم إلا على البديهيات.
فتقديم الدليل الكسبي التأسيسي على المسألة الواضحة الفطرية هو إقرار للخصم المكابر على أنها خفية ليست بفطرية، إلا إن كان القصد أن يكون مقام إيراد الدليل هو النقص على الخصم بإبراز التلازم بين المعنى الذي يقبله هو فيتخذ كمقدمة في هذا المقال ثم تذكيره فتلازمها مع ما ينكر من باب إيقاعه بالتناقض، وهذا التذكير لا على وجه التنبيه على صحتها ابتداء إنما تنبيه الخصم من غفلته عن لوازم إنكار هذه الضرورة من الشناعات وإلا فالفرض أنها ظاهرة عقلًا في حقه إلا أنه يغطيها بشبهات يقدمها على ما هو أظهر منها لشبهات تراكمت على قلبه حجبته عن حكم العقل الصريح وهذا مثاله التقليد والحفاظ على المنصب واجتيال الشياطين بالشهوات والوساوس المبررة لها أمام النفس.
وأما أن يظن الظان أن تطلب الاستدلال على البديهيات يزيدها ظهورًا فنفس تطلب ذلك فرع عن دعوى خفية مبطنة وهي أنها خفية وهذا بخلاف إظهار تلازمها مع قضايا ضرورية أخرى فهذا قد يحصل فيه المزيد من اليقين لمن يحسنه، وإلا فالناس في الأصل لا تحتاج إليه كما ذكر شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية.
#الغيث_الشامي