"إن عادة الحديث كما لو كان مجرد كون شيء ما ليس من الموضة يمثل اعتراضًا كافيًا عليه بدلًا من تحمل عناء التفكير في الخطأ الحقيقي"
- ماري ميدجلي، الأحكام الأخلاقية.
تسيطر بعض الأفكار على وعي الإنسان دون انتباه منه، لكنها تظهر على فلتات لسانه وعلى قبوله لبعض الأفكار من عدمها، واستحسانه لبعض القيم والمصطلحات ما إذا جائت موافقة لهذه العقلية المسيطرة عليه، وأقول العقلية لأنها أشمل من مجموعة أفكار معينة فهي تأتي بمعنى "Worldview" أو الرؤية الكونية، فهي تقوم مقامًا بديلًا للفطرة، ومن هذه الرؤى الكونية ما يسمى بـ "التقدمية"
وتقوم هذه الفكرة على أساس أن البشر يتطورون باستمرار على جميع الأصعدة قياسًا على التطور التكنولوجي والحضاري، فبناءً عليه فلا بد أنهم أفضل قيميّا وثقافيّا كذلك، فهو نوع من الخضوع النفسي "لسلطان الثقافة الغالبة" والانبهار بها.
وغالبًا ما تشير مصطلحات مثل "هذه الفكرة قديمة، متخلفة، رجعية، أكل عليها الدهر وشرب" لتأثر بهذا النمط من التفكير الذي يرى أن مجرد مرور الزمن كفيل بشيخوخة الأفكار وموتها، مع أنه من المعلوم أن الأقوال لا تموت بموت أصحابها، لأنها لا تستمد قيمتها المعرفية من شخصه إنما من الدليل الذي قامت عليه.
بينما على العكس من ذلك فإن الأفكار التقدمية (التي تقبل فقط لأنها موضة عصرية) فهي لا تعتمد على برهان إنما على حجة وقتية (هي صحيحة لأنها عصرية) فإنها تموت بموت أصحابها وانقضاء عصرهم.
ونحن نسأل: هل يمكن أن نكتشف أن فكرة التقدمية نفسها كانت خاطئة مع تقدم البشرية؟
نحن نسلم بأن الخبرات البشرية تراكمية في بعض المجالات، وأبرزها مجال العلوم الطبيعية وتحديدًا المشاهدات والأرصاد المباشرة، وحتى داخل هذا المجال فإن النظريات التفسيرية قابلة دومًا للتطوير والتخطئة فلن تصل لحالة نهائية وليس تقدمها دائمًا يعني أن التفسيرات تقترب من الحقيقة ولكنها تقترب من الفائدة العملية، لكن هل يمكن تشبيه هذا بالمجالات القيمية والأخلاقية والفكرية؟
إذا أجبت بنعم فقد حكمت على فكرة التقدمية بالتناقض الداخلي والموت، فإن الفكرة نفسها تابعة لمجال الأفكار لا المحسوسات الطبيعية فإن كانت تنص أن جميع الأفكار مصيرها الموت بمحض تقدم الزمن لا بحجج معرفية صحيحة تدحضها، فهي تلقائيا قد حكمت على نفسها بالموت أيضًا، فهي بالفعل أصبحت فكرة قديمة، لأنها بدأت إبان الثورة الصناعية الأوروبية، وبالفعل بدأ الفلاسفة يشككون فيها في هذا العصر.
بالنهاية لا يمكنك أن تتبنى فكرة تخبرك بأن كل ما تعتقده وتفكر فيه ويعتبر أسمى مبادئك هو مجرد موضة مصيرها التلاشي..
#الغيث_الشامي