"وعلم الله ماضٍ في خلقه بمشيئة منه!"
القول الصحيح في مصطلح "الإرادة الحرة" وعلاقته بالنصرانية
"قال الإمام حرب بن إسماعيل الكرماني رحمه الله.
ومَن زعم أن قتلَ النَّفس ليس بقدر من الله؛ فقد زعم أَنَّ المقتول مات بغير أجله، فأي كُفر بالله أوضح من هذا؟! بل ذلك كله بقضاء من الله وقدر، وكل ذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى في سَابقِ علمه لهم، وهو العدل الحقُّ الذي يفعل ما يريد.
ومن أقرَّ بالعلم؛ لزِمَه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصِّغَر والقَمَاءَةِ." (1)
"قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وحشرنا معه في عليين:
من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نفض الجاثليق النصراني ثيابه وقال: بركست بركست.
فقال عمر: ما يقول عدو الله؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله عز وجل يهدي ولا يضل -يعني: يخلق الخير ولا يخلق الشر- فقال عمر: كذبت يا عدو الله! بل الله عز وجل خلقك، وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله" (2)
فالفارق بين أهل السنة والقدرية (النصارى) فارق جوهري، فهم يثبتون ما يسمى "الإرادة الحرة"، وهو مصطلح مجمل يحتاج إلى تفكيك:
ما المقصود بمصطلح الحرية هنا؟ هل هي نفس الإرادة النابعة من الإنسان؟، إذا ما الحاجة إلى إلحاقها بكلمة "الإرادة"؟!، هل تصير مثلًأ "الإرادة المريدة"؟
لأن الإرادة هذه مقيدة بالضرورة بعدة عوامل بل بعوامل لا يمكن إحصائها ولا قريب من ذلك إلا لرب العالمين سبحانه ولكن من ضمن العوامل للمثال لا للحصر:
- الطبع الإنساني الشامل للبشر بعموم وميولهم وشهواتهم الفطرية.
- دينه والقواعد الأخلاقية التي يلتزمها بحسبه "أي ما يحرك جانب الفضيلة من نفسه وهو "الضمير الأخلاقي كما يسمونه".
- تجاربه السابقة وكم المعلومات التي يعلمها، وتقديره للمنفعة والمضرة العاجلة والآجلة.
- طبعه الشخصي ونيته المبيتة وتحكمه بنفسه فيما سيريده فعلًا وما لن يريده (لنسميها الإرادة بالقوة، أو النية المبيتة أو الميول المكبوت) الذي يظهر في المواقف الفعلية.
- العوامل النفسية التي يمر بها، من غضب ورضا واكتئاب وفرح، قد تغير في طريقة تفكيره أثناء اتخاذه للقرار.
إذا المفهوم من ذلك أن هذه الإرادة الحرة المتعالية عن الواقع والأسباب الداخلية والخارجية للإنسان هي مجرد وهم، نحن نعم لدينا إرادة تنسب لنا لكن هي واقعية كما نعيشها ونشعرها، نحن لا نعيش هذه الحرية المطلقة في الإرادة، إنما نعلم أننا قد نريد شيء ونندم عليه وأحيانًا تقول مثلًا أن الموقف جعلني أختار كذا بلا وعي مني أو ما إلى ذلك، فالإرادة ليست شيء حر لهذه الدرجة حتى كما نعيشها ونبدهها بلا أي تفكير في الغيب أو ما إلى ذلك، بل يكفي أن نحكي عن الإرادة المحسوسة، فهذه هي الإرادة التي يثبتها أهل السنة، الإرادة الواقعية البعيدة عن المثالية والتجريد.
لذلك من الخلافات الجوهرية بيننا وبين القدرية، أنه يثبتون العلم فقط، أما نحن نثبت أن علم الله ماضٍ في خلقه بمشيئته، فالله علم أن خلقه سيفعلون ويشائون ما شاء هو ابتداء، ولن يخرجوا عن ذلك قيد أنملة، وما خلقوا لذلك أصلًأ، ولن يقدروا على ذلك ولو اجتمعوا له!.
فالله سبحانه قد خلق نظام العالم وسننه وركب فينا وفيه من الطبائع ورتب الحوادث حدثًا بعد حدث وقدرها تقديرًا بالغ الدقة بحيث يحدث كل ما يحدث أمامنا.
ولو رتبنا هذه المقدمات لوجدناها ضرورية لا مفر منها:
- الله سبحانه وتعالى خلق العالم والبشر وطبع فيهم طباع سببية، بحيث أنك تؤثر وتتأثر بما جعلك الله قادرًا على فعله.
- الله سبحانه وتعالى هو الذي بدأ هذه الأحداث بخلق العالم وخلق آدم.
- والله سبحانه وتعالى لما بدأ هذه الأحداث، علم أنها إذا بدأت بهذه الطريقة وفي هذا المكان والزمان والكيفية والطباع هذه ستفضي إلى ما ستفضي إليه بتفاعلاتها مع بعضها البعض.
- فطالما أن كل حادث له سبب حادث سابق له، وكل هذه الأسباب راجعة إلى الله خلقًا وترتيبًا، فهذا هو القدر الذي يثبته المسلمين وهو الضرورة العقلية التي يثبت بها كل أهل الأديان وجود الصانع، وهو أنه هو سبب الكون بما فيه!، فمن أنكر ذلك لزمه تعطيل الصانع بالكلية والإلح_اد المحض!
مثال ذلك: أحجار الدومينو، التي إذا رتبتها بطريقة معينة وأوقعت أول واحد فيها علمت إلى ماذا سيفضي هذا بالنهاية وكنت سببًا في ما سيفضى إليه فإذا في هذه الحالة قد سقط الدومينو كما أردته أنت أن يسقط ولله المثل الأعلى.
لكن على أية حال، إرادتك ليست مجرد قطعة دومينو تسقط، لأن قطعة الدومينو لا إرادة لها، أما أنت فلما كان الله قد علم منك أنك إن وقعت بالموقف الفلاني أردت ذلك، لأنك أنت شخص (جيد)، وفقك وهيئ لك الأسباب بحيث تكون في مكان وزمان بحيث إذا كنت فيه فعلت هذه الطاعة بإرادتك، فهذه الإرادة كما ترى مشروطة باجتماع شروط وانتفاء موانع وهذا ولا شك له معنى السببية، ومع ذلك لا تقتضي الإجبار.
ولذلك لم يزل البشر يسألون بعضهم البعض، لماذا أردت كذا؟، ما الأسباب التي دفعتك وكانت شرطًا في إرادتك؟! فيقال: لماذا أردت أن تأكل؟ لأنني جائع، لكن هل الجوع هو سبب أجبرك على الطعام كما يجبر حجر الدومينو على السقوط بلا أي إرادة منه؟! الجواب لا
كان بإمكانك أن لا تأكل، ولكنك أنت من شرط أكلك أن تشعر بالجوع وهنا سيكون ذلك مثلًا سببًا كافيًا لاقتناعك بأن تريد أن تأكل، ومن انتفاء الموانع مثلًا كونك لست مصاب بفقدان الشهية.
وكل هذه الأمور الذي رتبها وجمعها الله في هذا الموقف الواحد هو الله عز وجل، فلو وضعنا شخص آخر مكانك مصاب بالاكتاب وفقدان الشهية وشعر بالجوع لم يكن ليأكل غالبًا، فلذلك كون الله قد جمع هذه الشروط ونفى الموانع وكان هو مسبب الأسباب ومدبر العالم، لا يعني أن هذه الشروط ستجعل أي شخص وضع فيها يأكل، إنما هي هيئت لك أنت تحديدًا لأنها هي الشروط التي تجعلك تأكل بناءً على طباعك وظروفك، لذلك الله سبحانه وتعالى يختبر الإنسان لتظهر أفعاله التي لا تظهر إلا بها، بحيث يصبح قد فعلها فعلًا وكتبت عليه ويصير يستحق عليها العقاب تحقيقًا.
لذلك تجد أن من علم من نفسه الضعف، دعا الله أن لا يضعه في موقف يظهر فيه هذا الضعف، بل أن يجنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن، لأنه يعلم أنه هو نفسه إذا وضع في الموقف الفلاني فغالبًا لن يستطيع مغالبة نفسه.
فلو تذاكى عليك القدري، وقال لك أن الله لو وضعك في هذا الموقف وهو عالم أنك ضعيف، كان مجبرًا لك على ذلك، قيل له هذا ليس الجبر المعروف في الحياة اليومية وهو التهديد بالسلاح أو غير ذلك، فأنت تستخدم معنى محرف فلسفي للجبر، لا يلزمنا وليس فيه حجة على غيرك مما لا يتبنى مذهب "الإرادة الحرة Free will" كما تصفها أنت!.
إنما نحن نتبنى أن هناك إرادة وهي سبب مؤثر فعلًا وهي طبع أودعه الله بالبشر، لكنه ليس حر من جميع القيود أبدًا.
واليوم النفس الإنسانوي والليبرالي والحركي، يميل لتبني مثل هذه المفاهيم
فمنهم من يقول لك "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"!
وأنك لا يجب أن تتبنى القدر كما هو عند أهل السنة لأنه سيجعلك متواكل وغير منتج أو ما إلى ذلك!.
والليبرالي يرى أن الحرية الإنسانية شيء مقدس لا يمكن الاعتراف بأنه أمر غير مثالي وخاضع لكثير من الشهوات والتلاعب والإعلام، وأن كثير من إراداتك قد تكون سببها تافه جدًا بحيث يكون مجرد اعلان في التلفاز دخل لعقلك اللاواعي دون محاكمة!، أو فيلم أو مسلسل، أو شهوة جنسية خفية، فتأمل!.
هذا والله أعلم
قال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
وقال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وقال تعالى: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
وقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
#الغيث_الشامي