قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبعض الناس يسمي هذا روحانية الشيخ، وبعضهم يقول هي رفيقه وكثير من هؤلاء يرى يقوم من مكانه ويدع في مكانه صورة مثل صورته، وكثير من هؤلاء ومن هؤلاء من يقول يرى في مكانين ويرى واقفا بعرفات وهو في بلده لم يذهب فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين.
فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/ 327)
وقال: وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري وأنه أشد رسوخا في النفوس من مبدإ العلم الرياضي كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين ومبدأ العلم الطبيعي. كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر وأما العلم الإلهي: فما يتصور أن تعرض عنه فطرة.
مجموع الفتاوى (2/ 16)
وقال: وإنما هو من باب الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثا والمحدث قديما
مجموع الفتاوى (18/ 139)
وقال: وبكل حال فلا يقوم بنفسه قضية كلية عقلية ضرورية أو غير ضرورية إلا بتوسط قياس واعتبار حتى مثل علمه بأن الواحد نصف الاثنين وأن الجسم لا يكون في مكانين وأن الضدين لا يجتمعان
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ط-أخرى (5/ 18)
أجمع هذه النقولات عن شيخ الإسلام فقط من باب تبيين غلط بعض الناس في فهم كلام المشايخ ووقوعهم في معقولات ضعيفة، طبعا شيخ الإسلام أساسًا لا يسلم بنظرية الجوهر والعرض فعلم من ذلك أنه يقصد بالجسم "أي ما هو قائم بنفسه" والله قائم بنفسه موجود حقيقي، ومن يفهم الخلاف بين المتكلمين وأهل الحديث في مسألة الجسم فلن يشغب على كلامي هذا بل سيراه بديهيًّا تمامًا وأما ضعيف العقل والفهم فأنا أدعوه ليذهب ويتعلم أولًا خيرًا له ولنا والله المستعان وعليه التكلان.
وحتى اختصر عليك قال شيخ الإسلام في التدمرية:
"⁂ وأما أهل الكلام: فمنهم من يقول الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول : هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول : هو المركب من الجواهر المفردة، ومنهم من يقول : هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون : إنه مشار إليه إشارة حسية، ومنهم من يقول : ليس مركبًا من هذا ولا من هذا؛ بل هو مما يشار إليه، ويقال : إنه هنا أو هناك"
الرسالة التدمرية - المطبعة السلفية (2/ 37)
فعندما نقول أن الله ينزل إلى السماء الدنيا مع بقائه على عرشه ونقول أن هذين مكانين فعلًا، فلا نقصد أن موجودًا يكون بمكانين منفصلين فيصير بحكم الموجودين الاثنين فهذا تناقض منطقي ظاهر كقولك 1=2 تمامًا، وحتى أبسط الأمر فتخيل كرة موجودة في غرفتين في غرفتك والغرفة المجاورة، هذا لا يكون، هي شيء واحد يكون له مكان واحد وهو مكان ذاته قإن رأيت كرتين كانت كرتين وليست كرة واحدة في مكانين! وهذا ما يجمع عليه العقلاء إلا المجانين والسفهاء!
ولكن قصدنا هو أن الشيء قد يكون في مكانين باعتبار نسبي، فمثلا أكون على الكرسي وانزل لأجلب شيء من الأسفل فهكذا يكون مكاني على الكرسي مع كوني نزلت، ولله المثل الأعلى، فنحن طبعا لا نشبه الله بالمخلوقات لكن نحن نقرب معنى وجود شيء في مكانين باعتبار نسبته المكانية إلى غيره لا باعتبار وجود ذاته هو نفسه في مكانين منفصلين كذاتين منفصلتين لأن هذا تناقض ولا شك، ولا يجب أن نتخيل الغيبيات أساسًا فضلًا على أن نتخيلها ونفسرها على هيئات متناقضة منطقيّأ! ومخالفة لضرورة العقل وفطرة الله التي هي نور وعلم من علمه علمه لجميع البشر فلا نكذب هذه الفطرة!
أو مثلًا يقال عن الشيء الواحد الذي يتوسط بين شيئين أنه فوق الشيء الفلاني وهو في نفس الوقت تحت الشيء الفلاني مع كونه شيء واحد، لكنه في مكانين باعتبار ما نسبناه إليه، فالله مثلاً يكون باعتبار فوق العرش، وهو قد نزل إلى السماء الدنيا باعتبار، مع كونه مازال هو العلي الأعلى باعتبار أيضًا ولم تزل عنه صفة العلو.
وطبعا كيفية نزول الله لا يمكن تخيلها، لأنه لا شيء مثله سبحانه حتى يقاس عليه قياس تمثيل أو شمول بل أكثر ما يمكن أن يفيدنا هنا في تقريب المسألة هو قياس الأولى، فكما يكون الرجل جالسًا على كرسي ثم ينخفض ليجلب شيء فيكون أقرب للأرض مع كونه مازال جالس على كرسي، فلله المثل الأعلى، وكما أن الكرسي هو فوق الأرض وتحت السقف وهذين مكانين اثنين مع أن الكرسي في ذاته في مكان واحد لم يصر كرسيّين اثنين ولا صار في مكانين منفصلين إنما ذاته واحدة يمكن وصفها بصفة مكانية بالنسبة لشيئين فيقال هذين مكانين، مكان بالنسبة للسقف ومكان بالنسبة للأرض، ولكن كل تلك النسب المكانية تشير لموجود واحد وهو الكرسي، وكذلك قد تقترب من شيء دون أن تبتعد من شيء آخر، كأن تتحرك وأنت جالس على كرسي متحرك فتقترب من شيء ما مع أن مكانك بالنسبة للكرسي نفسه لم يتغير، فمعلوم أن الحركة صفة نسبية أي بالنسبة لشيء دون شيء، فعندما تركب سيارة ما فأنت بالنسبة لأرضية السيارة جالس في مكانك بينما بالنسبة لأرضية الشارع متحرك.
ولله المثل الأعلى ولا نشبهه بأي مما ذكر ولا نكيف صفة نزوله بل هي أكمل وأجل من كل ذلك، إنما فقط ندرئ توهم الامتناع ونقرب المسألة للناس "أي مسألة الصحيح والسقيم في القول بوجود الشيء في مكانين"، ولا نقصد إثبات صفة لم يصف الله به نفسه أو نفي صفة، أو إيراد أمثال حتى يصبح الواحد منا قادرًا على تخيل كيفية صفة الله بعد أن ينتهي من قراءة المقال والعياذ بالله.
إنما نبين أن هذا معنى كلام العلماء بأن الله يستطيع أن يكون في مكانين بل إن بعض الملائكة كذلك، بل وبعض المخلوقين الذين نراهم هنا في الدنيا، مع تفاوت واختلاف الكيفيات بين كل موجود وموجود.
كيف نبين ذلك؟ من خلال تقريب المعنى الكلي للفظة "موجود في مكانين" هذه فنبين معنى ممتنع لها ومعنى جائز عقلًا في حق المخلوق فإذا وصف الله بها نفسه كان من باب أولى أن تجوز في حقه بلا إشكال!.
ونسهل تصور المعنى الكلي من خلال التمثيل على بعض جزئياته حتى ينتبه العاقل للمعنى المشترك بين هذه الجزئيات.
وأرى أن الأصوب الابتعاد عن الألفاظ المجملة إلا من باب الرد على الخصم في حال أورد شبهة تحتوي هذا اللفظ لكن عندما نأتي للكلام عن صفات الله الأصوب أن يقال هو على عرشه استوى كما أخبر وينزل كما أخبر ونثبتهما معًا بلا تعارض متوهم ولا تخيل ولا تمثيل، ولا نقول نحتاج للتفصيل أبدًا فوق ذلك ولم نتعبد بذلك ولو متنا ونحن سالمين من ذلك فلن يسألنا الله عن تفصيل ذلك أبدًا.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يزيدنا علمًا، ومن المعلوم أن شيخ الإسلام نفسه قد انتقد بعض الناس ممن انتسبوا لأهل الحديث وقالوا بمعقولات ضعيفة ومتناقضة وهذا يقع لكل ابن آدم وليس كل شخص انتسب للإسلام أو للسلفية صار بذلك معصومًا عن الغلط، بل إنني والله أرى بعض السلفية يقولون أشياء لو سمعهم الإمام أحمد لكان جهمهم وهم يظنونها تنزيه ونفي تجسيم وبعد عن التمثيل والله المستعان، فاليوم إذا أثبت صفة الجلوس أو فسرت صفة الإستواء بخبر الجلوس أو أي كان لدليل رجح عندك، انتفض عليك سلفي يتهمك بالتجسيم! بتهمة لم يتهمها أي أحد من السلف لمن أثبت الجلوس لله أبدًا!
بل هي تهمة الأشاعرة والله المستعان نسأل الله أن يرفع هذا البلاء عن العقول وأن يخرس لسان كل من ينشره ويلوث عقول أهل السنة.
#الغيث_الشامي