هناك من بالغوا بذم مفهوم التعقل أصلًا واستخدام المعقول لفقه النص ولوازمه ومدلولاته بما هو ليس عند السلف بل هو أقرب لطريقة المفوضة، وهو ما صرت أسميه "العقلوفوبيا" الذي نشأ بسبب إشاعة المتكلمين لصورة نمطية درويشية عن السلف يلخصونه بقولهم مذهب السلف "أسلم" وأن هؤلاء ما دخلوا في ما يسمى "العقليات" أبدًا، وهذا الكلام فيه حقٌّ وباطل، فإذا قصد لوازم الصفات المعلومة بالفطرة على وجه الإخبار أو المعلومة من نصوص الكتاب والسنة على وجه اللزوم الضروري اللغوي العقلي، أي ما يفهمه العاقل من اللفظ بالضرورة وإلا كان معطلًا لأصل اللفظ
كما في قول السلف بالحد والبينونة كخبر ومعنى وتفسير للعلو، وقولهم بالجهة والارتفاع.
وقولهم الذات، وقديم النوع حادث الآحاد، فمثل هذه التفصيلات التي تعرف بالعقل بعد تعقل النص نفسه وتعرف بالفطرة الضرورية
فهذا لا شك تكلم فيه السلف كلهم وكفروا منكره من جهة المعنى.
هذه أشياء لا يمكن دفعها بالبلكفة الاشعرية: كقولهم يرى بلا جهة بلا كيف.
فهذه بلكفة سوفسطائية تفويضية
إنما يقال يرى بجهة العلو ولا نعلم الآن كيفه
ولا نقول كقول النصارى: هو ثلاثة وواحد بلا كيف ولا يسال عن ذلك ولا يتفكر فيه!!
فهذا مسلك تكذيبي لضرورات العقل التي هدانا الله لها بأصل الخلقة.
وهو أيضًا كما هو معلوم استدراك على السلف
فالسلف كانو يربطون بين المعاني المتلازمة بالضرورة ولا يكابرون عليها سواء المتلازمة لغويّا او عقليّا كما قال بعضهم:
الكلام لا يكون الا بحرف وصوف
وهل يكون الاستواء إلا يكون الا بجلوس
ومسلك المكابرة على التلازم الضروري بين المعاني هذا ليس الا صنيع الملاحدة والنصارى ضعفاء العقول.
واما إذا قصد الخوض في نظريات الفلاسفة وتعملها من مظانها أو انشاء نظريات جديدة لا مكان للفطرة والضرورة فيها إنما منشأها القياس على كيفيات المخلوقين ومعاني النقص الكلية التي يختص بها المخلوق، وادخال الرب بقياس الشمول مع ما علم باستقراء العادة بما يخص المخلوقين؛ أو قياس التمثيل عليهم بأي وجه من الوجوه
فهذا لا شك أنهم ذموه أشد الذم ومنعوه وهو ما يقال له علم الكلام!
وأنا أوجه خطابي لكل من يقول علينا أن نتوقف على الألفاظ الشرعية القرآنية أو الحديثية ونترك مبحث الإخبار كله
ما قولك في قولنا "لله يد (حقيقة) فإن قلت يصح قلنا ولله علو بحد، فإن قلت لم يرد قلنا وحقيقة لم يرد
فإن قلت فقط أقصد تحقيق النص، قلنا ونحن نقصد ذلك
فإن قلت علم أنها حقيقة بالضرورة
نقول ونحن علمنا أن العلو لا يكون الإ بحد وبينونة بالضرورة
فإن قال لا اعقل معنى الحد قلنا ونحن لا نعقل معنى حقيقة
فإن قال أفسرها لكم إن كان بها إجمال عندكم قلنا ونحن نفعل ذلك مثلك
فواضح أن السلف وضعوا قواعد التفسير بالألفاظ "المرادفة" التي تكون بألفاظ مختلفة وتعطي نفس المعنى، أو اللوازم المعنوية التي لا تلزم إلا من المعنى الذي جاء به النص حتى يخرجونه عن باقي المعاني البدعية
كقول الدارمي
النور هو ما يسطع، وله منظر مرئي
فقد قرر لوازم النور الحسي أنه لا بد اذا ان يكون ساطع، وانهما حقيقتان متلازمتان بالعقل الضروري لا يمكن ان يطلق على الشيء اسم النور الا وهو داخل بهذا القدر المعنوي المشترك من أصل الكلمة مع اختلاف الكيفية ولا شك.
ويورد علينا المتكلمين هنا إيراد: أن هذا مرجعه للعادة، ونحن نقول إن معرفتنا للألفاظ مرجعها للعادة اما حكمنا على تلازم المعاني بإطلاق بغض النظر عن الكيفيات التي علمت بالعادة هذا اصله علم ضروري فطري
كعلمنا بالعادة ربط الفاظ ١+١=٢ بمعانيها التي نشاهدها بالحس ثم نعمم ذلك الحكم الضروري بالفطرة الضرورية على كل ما يمكن ان يدخل تحت هذه المعاني
وهذا لا سبيل لكم لأنكاره إلا جحد الضرورة وقد خبرنا عنكم ذلك كقولكم إننا لا نعقل موجودا لا داخل ولا خارج العالم لان العادة قد حكمت عقولنا
ومعلوم اننا نفرق بالضرورة بين الحكم العقلي الاستنباطي الأولي الذي لا نحتاج فيه لتاكد حسي من صحته في الخارج، وبين الحكم الاستقرائي العادي الذي له حيز استقراء ونحتاج للتحقق منه وله نسبة تحقق تقل كلما تغيرت الظروف التي تحقق استقراء العادة بها.
والنور الحسي لا يكون اسمه نور بالتعريف الا كان ساطعًا له منظر
ولا كان ظلاما وهذا تقابل السلب والايجاب وهذا المثال اورده من باب المثال فقط
فإن وصف الله نفسه بما نعقله من معنى كلمة نور فهمنا انه لازم ذلك ان له "ضوء ساطع" ومنظر "رائع" لانه جميل
وبيان التلازم بين معنى النور ومعنى السطوع هذا هو تفسير لمعنى النور اصلا بتفكيكه الى عدة معاني هي من حقيقة المعنى من باب اللغة والحقيقة العقلية للفظ نفسه فالضوء لا يخلو ان يكون شيء "مرئي" و"ساطع"، فهذا من قبيل الانتقال من مفهوم كلي الى ما يلازمه من معانٍ كلية أخرى.
كأن يقال كل مضيء فهو ساطع بدرجة ما من السطوع، وكل موجود فهو في مكان، وكل موجود فهو في زمان، إما أنه موجود الان او في الماضي او في المستقبل
والسلف كما هو معلوم احترموا هذا التلازم الضروري سواء في اللغة أو العقل الفطري
كقولهم وهل يكون متكلم الا بالحرف والصوت؟!
وهل يمكن النداء بلا صوت؟!
وهل يكون الاستواء الا بجلوس؟!
وهل يكون الوجود إلا بصفات؟!
فهذا التعميم تعميم لغوي وعقلي
فلا يصح ان يسمى شيء بانه موجود من باب اللغة الا بهذا ولا يصح من جهة العقل ايضا مهما اختلفت اللغات.
وهذه المباحث داخلة ايضا في مباحث ذات صلة مثل القدر المشترك، ومثل نقاشنا مع الجهمية في باب الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي.
فتنبهوا بارك الله فيكم لذلك
#الغيث_الشامي