إلزام ابن القيم لمن قدم العقل على النقل بأن يكذب كل ما جاء به الرسول

3 وقت القراءة


قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله:

"الوجه السابع: إنه إذا قيل له لا تصدقه في هذا كان أمرا له بما يناقض ما علم به صدقه وكان أمرا له بما يوجب ألا يثق بشيء من خبره فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله سبحانه وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع:

نوع يجب رده وتكذيبه ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ونوع يقر.

وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه بل هذا يقول ما أثبته عقلك فأثبته وما نفاه عقلك فانفه وهذا يقول ما أثبته كشفك فأثبته وما لا فلا.

ووجود الرسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية بل على قولهم وأصولهم وجوده أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته علما بهذا الشأن واحتاجوا إلى دفع ما جاء به إما بتكذيب وإما بتأويل وإما بإعراض وتفويض."

قلت: فالمخبر إما أن يعرف صدقه وعلمه (بالتالي مطابقة قوله للواقع) بدليل عقلي صحيح، أو دليل حسي استقرائي صحيح (كأن تعلم من أحوال الرجل أنه صادق). 

وطالما أن الخبرة الحسية (الاستقراء) غير متوفرة في المخبر الغيبي، فإذا دل العقل على صدقه في كل ما أخبر به امتنع تكذيبه أو رد شيء مما قاله سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

لكن إذا جوزت أن يكذب في بعض الأمور لم يكن لديه معيار تفرق به بين ما يكذب به في العادة وما لا يكذب وما يمكنك أن تصدقه به وما لا يمكنك وما يريده على ظاهره وما لا يريده، إذ لا خبرة لك بأحواله أصلًا، فكيف إذا كان هو لم يخبرك أصلًا بأنه يفعل مثل هذا الفعل بل ويخبرك أنه يريد البيان وأنه يريدك أن تؤمن بكل ما يقوله بلغة عربية مبينة!

فإذا قبلت أنه قد يكذب في بعض الأمور ولا دليل يفرق بين صدقه وكذبه فيما يخبر، امتنع أن تصدقه في كل ما يقول.

مثال ذلك: إذا علمت أن كتابًا ما محرف لكن ليس عندك معيار لتفرق بين ما وقع عليه التحريف وما لم يقع، فغاية أمرك أن لا تصدق ولا تكذب، أو أن تجعل غيره معيارًا لتصديق بعضه وتكذيب بعضه والتوقف في بعضه كما نفعل مع التوراة والإنجيل حين نجعل القرآن حاكمًا عليها، فما وافق القران فهو صحيح وما عارضه فهو باطل وما لم يذكر في القران خلافه ولا وفاقه فلا نصدقه ولا نكذبه.

لكن المتكلمين جعلوا عقولهم حاكمة على الكتاب والسنة فما وافق نظريتهم الفلسفية التي جعلوها الممثل الرسمي للعقل أخذوا به وما عارضها ردوه وما لم يعارضها قبلوه حتى يظهر المعارض، فقبولهم له مشروط بعدم ظهور المعارض لهم مع إمكانه نظريّا سواء لهم أو لغيرهم!

فالشك النظري (أي قابلية ورود المعارض) ممكنة عندهم وليس مجرد ورود الخبر عن الصادق يرفعها فعندهم بابها مفتوح وعدم العلم بالمعارض لا يساوي عدمه في نفس الأمر! فتأمل كيف لازمهم الشك النظري المناقض للإيمان! ثم اسال ربك السلامة والهداية.

فقولهم معيار التصديق في الغيبيات هو إخبار الصادق بشرط العلم بإمكان الشيء عقلًا لا يعتبر تصديقًا وانقيادًا أصلًا! لأن العلم بالإمكان العقلي حقيقته أمر سلبي وهو عدم العلم بالامتناع على عكس الإمكان الخارجي الذي هو العلم بوجود الشيء أو نظيره أو ما يكون وجوده هو أولى من ما علم وجوده في الشاهد، فالإمكان الخارجي علم ثبوتي إيجابي، أما العقلي فهو سلبي عدمي!

ثم هب أنني قلت لك أنا أصدقك فيما أخبرت به إذا لم يعارض كلامك كلام شيخي، فإذا قد جعلت شيخك مقدم علي، كيف والحال إذا كان قد قال لك شيخك قلد هذا فهو أعلم مني، فوجب علي إذا أن أصدقك ولو خالف كلامي شيخك، لكن كيف والحال أنك بقيت تقدم كلام شيخك علي وتصدقه فيما خالفته فيه أنا، فإذا أنت لازلت تتحاكم إليه وتقدمه في الرتبة العلمية علي.

وهذا حال المتكلمين مع عقولهم في تعاملهم مع الوحي.

إذ العقل دلهم أنه قد يخطئ في القضايا النظرية ومحالات العقول وأن النقل يستحيل أن يأتي بما يخالف الضروري منه، فكل ما جاء به الوحي فتلقائيا هو لا يخالف العقل الضروري، لكن إن خالف العقل النظري وجب التحاكم إلى النص وهذا أساسًا لازم تصديق العقل الضروري في دلالته على أن الوحي جاء من مصدر أعلم من العقل وأنه هو خالق العقل أصلًأ.

هذا والله أعلم.

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق