يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وكيف تكون النتيجة المثبتة بمثل هذه المقدمات دافعة لتلك القضايا الضروريات.
وهذا الذي قد نبه عليه في هذا المقام: كلما أمعن الناظر فيه وفيما تكلم أهل النفي فيه: ازداد بصيرة ومعرفة بما فيه فإنه لا يتصور أن يبني النفي على مقدمات ضرورية تساوى في جزم العقل بها مقدمات أهل الإثبات الجازمة لفساد نتيجتهم وهو قولهم: إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه جزما لا يساويه فيه جزم العقل بالمقدمات التي تبنى عليها هذه النتيجة الثابتة امتنع أن يزول ذلك الجزم العقلي الضروري بنتيجة ليست مثله في الجزم.
وهذا الكلام قبل النظر في تلك المقدمات المعارضة لهذا الجزم: هل هي صحيحة أو فاسدة وإنما المقصود هنا أنه لا يصح للمناظرة ولا يقبل في المناظرة أن يعارض هذا الجزم المستقر في الفطرة بما يزعمه من الأدلة النظرية وهذا المقام كاف في دفعه وإن لم تحل شبهاته كما يكفي في دفع السوفسطائي أن يقال: إنما تنفيه قضايا ضرورية فلا يقبل نفيها بما يذكر من الشبهة النظرية."
- بيان تلبيس الجهمية (2/ 10)
يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله:
"وهذا وغيره بعض ما تعرف به إلى عباده من كماله، وإلا فلا يمكن لأحد قط أن يحصى ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد، وكل الكمال له سبحانه. هو الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات وتلقوه عن الرسل ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشبه القادحة في ذلك، وإذا وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورة من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك.
فلو قال قائل: هذا الذي علمتموه لا يثبت إلا بالجواب عما عارضه من العقليات. قالوا، لقائل هذه المقالة: هذا كذب وبهت: فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلها لم يثبت لنا ولا لأحد علم بشي ء من الأشياء، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه الخيالية وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا فشيئا، بل إذا جزمنا بثبوت الشي ء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته. ولم يكن ما يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به، ولو كانت الشبهة ما كانت، فما من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة ويعجز السامع عن حلها. ولو شئنا لذكرنا لك طرفا منها تعلم أنه أقوى من شبه الجهمية النفاة لعلو الرب على خلقه وكلامه وصفاته.
وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن الإنسان تتبدل نفسه الناطقة في الساعة الواحدة أكثر من ألف مرة، وكل لحظة تذهب روحه وتفارقه وتحدث له روح أخرى غيرها أبدا، وما أقاموا من الشبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظة ويخلفها غيرها، وما أقاموا من الشبه على أن روح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه، وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح، وما أقاموا من الشبه أن الإنسان إذا انتقل من مكان إلى مكان لم يمر على تلك الأمكنة الأخرى التي من مبدأ حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها، وهي مسألة طفرة النظام؛ وأضعاف أضعاف ذلك.
وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقولون إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق ولا فرق بينهما البتة، وإن الاثنين واحد، وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد ويقيمون على ذلك شبها كثيرة قد نظمها ابن الفارض في «قصيدته»"
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 245)
------
قلت: فكلامهم واضحًا بأن الضرورات العقلية لا تزول بضرورات عقلية وإلا لزم القول بأن الضرورات ليست ضرورات أصلًا إذ هي قابلة من حيث العقل المجرد إلى القدح فيها وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا قبل النقل الآنف بصفحة فقال:
"فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بنى عليه النفي كان في هذا دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها وإن قيل إن هؤلاء قدحوا في هذه المقدمات قيل: فإذا جوزتم على أئمة النفاة أن يقدحوا بالباطل في المقدمات الضرورية فالتي يستدل بها أهل الإثبات أولى وأحرى."
فصرح أن الضرورات في الأصل إن صح كونها ضرورات حقيقة لا إدعاءً كاذبًا لم يجز أن يورد عليها معارض معتبر لا من جنسها ولا من جنس النظريات
بالتالي لا يرد عليها إلا الأهواء ولا يصرف عن الإقرار بها والتصديق إلا المكابرة.
ولذلك نقول إن زوال الفطرة هو الزوال عنها لا انخرام الضرورة نفسها وزوالها بالعلم النظري الباطل أو الضرورات الأخرى المناقضة! إذ هذا لا يكون حال كون العقل سليمًا والقلب صادقًا في طلب الحق، إذا لا يكون إلا بالأهواء والتغافل والتقليد.
#الغيث_الشامي