التعامل مع العلوم التي تقوم في النفس مقام الضرورة والأصول التي تصل الغاية في اليقين
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله:
"أن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه في كل ما يخبر به، ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء، ولا يستريب في ذلك إلا مؤوف في عقله، مصاب في قلبه وفطرته.
فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه وتكلمه بمشيئته وتكليمه لخلقه، ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدار الآخرة، ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوته وصدقه التي زادت على الألف، وتنوعت كل تنوع.
فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة إلا من هو من أفسد الناس عقلا ونظرا، وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات، فإنها وإن عجز كثير من الناس عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والاضطرار، فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف جزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها، وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول سواء، فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به، وإن عجز عن حلها، فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري، وهذه الشبه عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة؛ فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل؟! يوضحه:
أن الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بين مراده، وقد تبين لنا أكثر مما تبين لنا كثير من دقائق المعقولات الصحيحة، فمعرفتنا بمراد الرسول من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة المقدمات في نفسها، صادقة النتيجة غير كاذبة، فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك، فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ، ولكن لم يتفطن لخطئها.
وأما كلام المعصوم فقد قام البرهان القاطع على صدقه، وأنه حق، ولكن قد يحصل الغلط في فهمه، فيفهم منه ما يخالف صريح العقل، فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل، فهذا لا يدفع، ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح، وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل.
ومن أراد معرفة هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليبين له مطابقة أحدهما للآخر، ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح؛ فإنه يعلم حينئذ أن النفاة أخطؤوا خطأين: خطأ على السمع، فإنهم فهموا منه خلاف مراد المتكلم. وخطأ على العقل بخروجهم عن حكمه. فخرجوا عن العقل والسمع جميعا."
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
-----------
وسألخص كلامه في نقاط:
● العلوم الضرورة لا يرى العقل السليم أن نقيضها معتبر ولو كان إمكانه حدوثه متوهمًا إذ العلم بعدم تحققه في الخارج علم ضروري لا يدفع بالإمكان العقلي، وإلا فالإمكان العقلي واسع جدا حتى جوز به بعض الفلاسفة انخرام جميع الضرورات أو أكثرها (مثل ديكارت وهيوم)
● وأن هؤلاء السوفسطائية جاحدي العلوم الضرورية التي يضر إلى مثلها النوع الإنساني إذا ما تعرض لنفس هذه الظروف :
• كأن يعيش بين المسلمين فيعلم وجوب الصلاة علما ضروريا بتواتر فعلي ومعنوي فيكون هذا مما علم من الدين بالاضطرار
• أو تواتر ما به تعلم صحة الدين ومطابقته للفطرة
• أو تواتر أدلة العلو والتكليم ومطابقتها للفطرة
• أو القضايا التي تكون أدلتها كونية ظاهرة لكل البشر بالحس الصريح والعقل الفطري الضروري كوجود الله وكماله
• أو العلم بصدق الرسول بعد انتظام كثير من الأدلة واجتماعها في النفس باستقراء ضمني لما علم من أحوال النبي والوحي وانفعال الفطرة بذلك.
• أو ما علم بالاضطرار أنه مقصود الرسول من كلامه من السياق في مسائل الشريعة
• أو المحسوسات المفهومة الموجبة للعلم الضروري
وهذه أنواع من العلوم الضرورية التي بمثلها يطعن السوفسطائية والقرامطة وهذا لا يحصل إلا لمريض عقل أو قلب كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم
وأن كثير مما نظن فيه الصحة من العقليات التي يفتح العقل باب إمكان خطأها تبين لنا لاحقا أننا غالطون فيها لخفاء بعض الدقائق التي لم نتصورها في بعض مقدماتها ودخول الإجمال والاشتراك في معانيها أو قياس فاسد تبين لنا خطأه فلما كان الحال كذلك في العلوم النظرية فلا يلتفت الى جوابها اذا جاء ما هو اقوى منها فإن الجواب عنها وإن لم نعرفه فإنه ممكن عقلا والضرورة تغني عنه لأنها أصح.
#الغيث_الشامي