بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آلة وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فقد ابتليت بمناظرة البارحة على الكلوب هاوس مع شخص يزعم أنه لا يجد أي سبب عقلي يدفعه للقول بأن الإغتصاب خطأ في نفسه، أو أن الظلم خطأ وصفة نقص يتنزه عنه العاقل وما إلى ذلك، ويزعم أن كون عامة البشر "يبدهون" هذه الأمور ويجدونها ضرورة بديهية لا تخفى على عاقل، فإن هذا ليس حجة في نفسه، وأن المسألة بالنهاية لا يمكن تبريرها بغيرها، وأن زعمنا أنها بديهية هذه مصادرة على المطلوب!
وبالحقيقة مثل هذه الأقوال الساذجة تستحق وقفة منهجية، وسألخصها في عدة نقاط:
1: التفريق بين الضرورات بلا مستند معرفي حقيقي، فإن تعيين الضرورة من عدمها يتعلق بملكة عقلية وليس باستقراء آراء الناس وإجماعاتهم على أية حال، للزوم الدور إذ مسألة فائدة الاستقراء هذه نفسها ضرورة عقليّة وأي مسلمة ستفرع عليها قبولك لإجماع الناس كحكم على كون الضرورة ضرورة ستكون عاملت تلك المسلمة على أنها ضرورة وستكون وقعت بالدور.
2: قال الخصم: قد اتفق النظار على تفاوت عقول البشر: قلت، وبأي شيء تزعم اتفاق النظار إن كانت عقول البشر متفاوتة؟!، فكون عقول البشر متفاوتة مطلقًا إذا يجب أن لا يتفقوا على شيء، فإن زعمت أن هذا حصل لهم باستقراء العادة، قلت إذا هم لم يتفاوتوا في فهم هذا الاستقراء! فهذا القول ينقض أوله آخره (1)، وهذا عائد لأن كلمة عقول البشر متفاوتة هذا مجمل، فإن قصدت بالبديهيات الأولى فحتمًا لا، لكن إن قصدت في المسائل التركيبية الصعبة ولو كانت استنباطية "a priori" لكنها تحتاج بعض التدبر والتأمل حتى تفهم معانيها ثم بمجرد تصور معانيها يحصل الحكم الضروري بالإجابة الصحيحة أو بصحة الإجابة يعني، مثل مسألة "100+100=200"، فهي صحيحة بمجرد التصور، قد تكون صعبة على الطفل أن يتصورها لكن اذا فهمتها تجد أن جوابها بديهي لا يجب أن يجاوب غيره أي عاقل يفهمها، على الرغم أنك قد تكون لم تجرب أن تجمع 100 شيء مع 100 شيء وترى النتيجة، لكن يكفيك تصور معنى الألفاظ اللغوية المعبرة عن هذه الاعداد حتى تنحاز فورا للجواب الصحيحة ضرورة وبداهة.
3: قال الخصم إن ما نزعمه بداهة وضرورة هذا مصادرة على المطلوب، قلت ما معنى المغالطة المسماة "المصادرة على المطلوب" هذه؟
باختصار هي: التسليمُ بالمسألة المطلوب البرهنةُ عليها من أجل البرهنة عليها.
كأن تقول لماذا أنا لست كاذب؟ لأنني صادق، مع أن قولك أنك صادق هي نفسها تماما قولك أنك لست كاذب وليس دليل عليها من خارج نفسها، ومعلوم ان الأشياء التي تفتقر لشيء غيرها حتى يصححها لا تكون هي دليل صحة نفسها وإلا تناقضت!
لكن لنا وقفة هنا، إذ نحن نزعم أن المسألة (أ) هي صحيحة بنفسها وليس شيء مطلوب إثباته أصلًا من غيره حتى تنطبق عليه هذه المغالطة فيقال "أنت تصادر على المطلوب إثباته"!
بل أنا لو برهنتها لك برهانا يعلمك من بعد خلو نفسك من هذه المعرفة بأنها معرفة بديهية لا تخفى على عاقل، كنت هنا أنا متناقض إذ نقضت قولي بقولي، إذ كيف أزعم أنها بديهية لا تفتقر لاستدلال ولا تلجئ إلى نظر بعد فهمها، بل يجزم العقل بها مباشرة، ثم استدللت عليها وأسستها هي أو بداهتها على دليل!.
إنما الاستدلال في مثل هذا يكون على مقام التنزل والنقض والإلزام، كقولنا كيف تزعم أنها غير بديهية وهي تتلازم ضروريّا مع البديهة الفلانية والفلانية؟! (2)
وبالحقيقة إن كون المصادرة على المطلوب مغالطة منطقية هو نفسه يمكن أن ترد عليه هذه الشبهة، إذ ما الدليل عند الناظر على كون المصادرة على المطلوب أمر خاطئ بالبداهة؟!، إن زعم أن هذه البداهة نفسها مصادرة على المطلوب هي وكل ما تتأسس عليه من بديهيات فسينحل عقد العقل كله بين يديه ولن يجد في عقله شيئًا يفيده علم ويقين أبدًا!، حتى المصادرة على المطلوب نفسها تصبح مصادرة!.
-------------------------
(1) وبالحقيقة فإن زعمك أن الفلاسفة اتفقوا هذا زعم عريض جدّا إذ يستحيل جمع إجماع للفلاسفة المعتبرين عقلًا!، إذ قد يخالفك خصمك أساسًا بتعيين هؤلاء الفلاسفة الذي يؤخذ بإجماعهم، ثم ما الفائدة من إجماعهم؟ هل مثلًا ثبت عندك استحالة أن يخرج الحق من مجموعهم عقلًا، فهذه الاستحالة نفسها هي ضرورة عقلية أنت تزعم أنها متوقفة على تعيين اجماع الفلاسفة أولًا قبل أن تقر بها!، ولو ثبت الإجماع فلا حجة فيه أبدًا، ودائما عندما تحاول تعيين الاجماع تذكر الفلاسفة السوفسطائيين بأنهم حتمًا سيكون منهم مخالف لقولك لأنهم خالفوا في العقل نفسه وبالتالي كل ما تفرع عنه!.
(2) وهنا فائدة منهجية: طالما أن الخصم قد كابر على ضرورة عقلية في أساس النقاش، فله أن يكابر على غيرها، وهذا ينقض مبدأ المناظرة من أساسها!، إذ مبدأ المناظرة يعتمد على أن تلزم الخصم بضرورة لا فكاك منها، وهذا يستصحب ثقتك بأنه إن علم أنها ضرورة لن يكابر، لكن هذا بالأساس ما بدأت معه النقاش إلا لأنه سوفسطائي جاحد للضرورات فأنت من حيث المبدأ عليك أن تتوقع أن الأرجح أنك لن تصل معه إلى شيء لنفس الآفة التي بدأ منها النقاش أصلًا وهي (المكابرة على الضرورات) التي طبعا من ضمنها إلزامك الذي ترنوا أن تلزمه أياه ضروريّا، فمثل هذا لا فائدة من أن تناظره أصلًا! أتركه في هذيانه فلن تصل معه لشيء أصلًا.
#الغيث_الشامي