يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله:
"ولما رد أهل السنة تأويل الجاهلين لم يقدر الجهمية على أخذ الثأر منهم إلا بأن سموهم مشبهة، ممثلة، مجسمة، حشوية، ولو كان لهؤلاء عقول لعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص وتكلم بها، ودعا الأمة إلى الإيمان بها، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها، ولو كان خصومكم كما زعمتم وحاشاهم مشبهة ممثلة مجسمة لكانوا أقل تنقصا لرب العالمين منكم وكتابه وأسمائه وصفاته بكثير، لو كان قولهم يقتضي التنقيص، فكيف وهو لا يقتضيه لو صرحوا به فإنهم يقولون: نحن أثبتنا له غاية الكمال ونعوت الجلال ووصفناه بكل صفة كمال، فإن لزم من هذا تجسيم لم يكن هذا نقصا ولا عيبا بوجه من الوجوه، فإن لازم الحق حق، وما لزم من إثبات كمال الرب ليس بنقص.
وأما أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال، ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه بأضدادها من العيوب والنقائص، فما سوى الله ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين من نفى كماله المقدس حذرا من التجسيم، وبين من أثبت كماله الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك، كائنة ما كانت."
- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 39)
--
قلت: فهذه الحجة لها ثلاثة أوجه:
الأول: هب أن الصفات المذكورة في القرآن هي تشبيه أو لازمها التجسيم، فهذا عيب على من قال القرآن لا علينا نحن ونحن إنما قلنا سمعًا وطاعة لقران وسنة ليس فيهم شبهة دليل يصرف عما فهمناه وفهمه القرون الأولى المخاطبين من المسلمين، ولو زعمتم لهذا المعيار وجودًا فليس إلا وافدٌ خارجي لم يعرفه الصحابة ولا بينه القران ولا السنة فإذا قد وقع الضلال على المخاطب الأول بالعفل ووقع العين على من أضلهم! علمًا أننا وإياكم باتفاق نقر لهذه القرون بالأفضلية علينا لا العكس! وأنهم هم المهديين.
الثاني: هب أن الصفات المذكورة في القرآن هي تشبيه أو لازمها تجسيم
فالصفات المذكورة في القرآن صفات كمالية، فإن كان عقلكم لا يستوعب الاتصاف بها إلا على وجه التشبيه والتجسيم فإن وجودها على أية حال أكمل من عدمها والاتصاف بضدها من الآفات والعيوب والأعدام المحضة، فإن كان لزامًا علينا أن نُخيّر بين التعطيل والتشبيه فالأولى عندنا نقلًا وعقلًا أن نختار التشبيه
إذ المشبه للمخلوق الموجود أكمل من المشبه للعدم الممتنع، وكذلك سيكون أقرب للنصوص من المعطل!
الثالث: هب أن الصفات المذكورة في القرآن لازمها التجسيم
فالتجسيم شيء والتشبيه شيء فالتجسيم عندكم لازمه التشبيه لشبهة أن كل الأجسام متماثلة وأنها يلزم منها التركيب والافتقار
ونحن نقول كل ما زعمتموه لازمًا لم تقيموا عليه دليلًا عقليّا صحيحًا وكل ما أقمتموه يلزم منه حدوث كل موجود! إذ كل موجود ففيه صفة وموصوف ويشار إليه إن كان قائمًا بنفسه ويمتاز منه شيء عن شيء ويمكن أن يُحَس (فالله يراه سبحانه)
ونحن على أية حال نستفصل في لفظ الجسم فلا ننفيه ولا نثبته من حيث هو إنما نثبت المعاني اللائقة بذات الله وننفي المعاني التي لا نليق ودليلنا في ذلك الكتاب والسنة فلا نغرق في المجملات والألفاظ المحدثة بلا كتاب يهدي.
وأكبر مافي الأمر أن نقول لكم نحن نقف في لفظ الجسم نفيًا وإثباتا إن اعتبرناه صفة زائدة (غير لازمة من صفات أخرى) وهو ليس نقصًا لذاته ولم تقيموا دليلا على ذلك، فإن جاء به النص أثبتناه صفة.
فإن قلتم هو لازم ما أثبتم قلنا لكم إذا نثبته على جهة الإخبار إذ لازم الحق حق ونحن بحمد الله جازمين بأن ما أثبتناه حق وليس عندكم ما به تبطلون ذلك علينا.
وهذا على التنزل وإلا فهذه الصفات لا يلزم منها كلّ ما تسمونه تجسيم إنما يلزم منها بعضه فعًلا (كمثل لزوم الجهة والانفصال وقابلية الإشارة من العلو والرؤية) وهذا نقبله كله وهو عندكم تجسيم.
هذا والله أعلم
#الغيث_الشامي