فائدة في فهم بعض المواضع من كلام الإمام الطبري

10 وقت القراءة

 

فائدة في فهم بعض المواضع من كلام الإمام الطبري، وهدم حجج المخالفين من عدة فرق (الأشاعرة، الأثرية الزائفة، وغيرهم)
بعض الجهمية ممن يصطادون في الماء العكر يأتون بكلام للطبري يقولون أنه يدل على نفي الأفعال الاختيارية الحادثة (مع كون كلامه في إثبات النزول في ثلث الليل الأخير ظاهر) لكن على أية حال ينقلون:
"وقلنا: من جهل ذلك فهو بالله كافرٌ؛ فإذا كان ذلك صحيحاً بالذي به استشهدنا، فلا شك أن من زعم أن الله محدثٌ، وأنه قد كان لا عالماً، وأن كلامه مخلوقٌ، وأنه قد كان ولا كلام له، فإنه أولى بالكفر وبزوال اسم الإيمان عنه.
وكذلك من زعم أن فعله محدثٌ، وأنه غير مخلوقٍ، فمثله لا شك أنه أولى باسم الكفر من الزاعم أنه لم يزل عالماً لا علم له؛ إذ كان قائل ذلك أوجب أن يكون في سلطان الله ما لا يقدر عليه ولا يريده، وأن يكون مريداً أمراً فيكون غيره، ولا يكون الذي يريده"
فيقولون، أنتم أيها الأثرية تقولون أن لله أفعالًا محدثة غير مخلوقة فهذا النص فيه تكفيركم!
ونحن نقول بل فيه تكفيركم أنتم! فاسمعوها وعوها منه في موضع آخر حين قال في تفسيره:
"وأولى الأقوال بالصواب في قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: (كن) في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه.  فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)"
أما تستحون يا هؤلاء؟ أليس مذهبكم التراخي الأزلي بين الإرادة (التعلق الصلوحي) والمفعولات (التعلق التنجيزي) ؟!!
فالإمام الطبري يفرق بين الإرادة والفعل المعين وبين نوع ذلك وهو الصفة الفعلية فيجعل الأول حادث غير مخلوق والثاني قديم غير مخلوق بخلاف من زعم أن الصفة نفسها في الله مخلوقة لها بداية فيقول:
"قال أبو جعفر: لن يستحق أحدٌ أن يقال له: إنه بالله [عارفٌ] المعرفة التي إذا قارنها الإقرار والعمل استوجب به اسم الإيمان، وأن يقال له: إنه مؤمنٌ، إلا أن يعلم بأن ربه صانع كل شيءٍ ومدبره، منفرداً بذلك دون شريكٍ ولا ظهيرٍ، وأنه الصمد الذي ليس كمثله شيءٌ: العالم الذي أحاط بكل شيء علمه، والقادر الذي لا يعجزه شيءٌ أراده، والمتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت. وأن يعلم أن له علماً لا يشبهه علوم خلقه، وقدرةً لا تشبهها قدرة عباده، وكلاماً لا يشبهه كلام شيء سواه. وأنه لم يزل له العلم والقدرة والكلام."
ومقصده بالسكوت هنا الخرس إذ إنه يعلق الكلام بالمشيئة، وهذا ليس فهمنا لكلامه بل أنتم مرغمون على ذلك، أليس قد علق الكلام بالمشيئة في النقل الآنف حين قال أنه يقول كن حال الإرادة! أعندكم يكون الكلام النفسي حادثًا عند المشيئة؟! أم عند السالمية أم عند من غير أهل السنة؟!
ويحضرني أن أذكر هنا قوله:
"قد دللنا فيما مضى قبل من كتابنا هذا أنه لا يسع أحداً بلغ حد التكليف الجهل بأن الله -جل ذكره- عالمٌ له علمٌ، وقادرٌ له قدرة، ومتكلمٌ له كلامٌ، وعزيزٌ له عزةٌ، وأنه خالقٌ. "
ففرق بين القدرة والكلام وجعل هذا قسيم لهذا وجعله لم يزل متكلمًا بكلام متى شاء وقادرًا على ما شاء، فلم يجعل القديم هو القدرة على الكلام بل أن كلام الله ليس له أول فلا يوجد كلمة أولى ما تكلم الله بشيء قبلها، وركز أنه يقول متكلم بكلام، ويعطفها على خالق، أفتكون خالق بلا خلق عندكم؟! 
ويقول لخصومه: "وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم والقادر منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه، بأنه عالمٌ لا علم له، وقادرٌ لا قدرة له؟"
فمن الذي يجوز أن يكون الله خالقًا لا خلق له، متكلم لا كلام له، ثم يصير متكلمًا بكلام لاحقًا بعد أن تبدأ فيه الصفة، فأهل السنة يقولون أن الاسم مقارن للصفة أزلًا وأبدًا وأن أفعاله المعينة مشتقة من أسمائه المتضمنة لصفاته، أما عندكم فكان الله باسم بلا صفة ثم صار له الصفة بعد الفعل الأول!
أما كلام الإمام في مسألة أول مخلوق فمع هذه القواعد فيحمل على أول مخلوق مذكور وهو يختار أنه القلم، وهو نفسه ينقل نصوص على نحو "أول ما خلق كذا" في سياق الأولية النسبية بلا نكارة، وينقل مقالات مثل: أول ما خلق الله القلم وكان عرشه على الماء، فإذا العرب يطلقون الأولية ويقصدون أولية باعتبار معين بلا نكارة، وهو أصلًأ ينكر أن يكون للصفة الفعلية بداية ويجعل هذا كفر فانظر ما نقله هنا مثلًأ:
قال الطبري في تفسيره حدَّثني محمدُ بنُ عبدِ الملكِ بن أبى الشَّواربِ، قال: ثنا عبدُ الواحدِ بنُ زيادٍ، قال: ثنا خُصيفٌ، قال: سمِعتُ مجاهدًا يقولُ: 
«إن أولَ ما خلَق اللهُ الكعبةُ، ثم إن أولَ ما خلَق اللهُ الكعبةُ، ثم دحَا الأرضَ مِن تحتِها».
(بالمناسبة هذا دليل ضد جماعة القرصية "المسطحين زعموا" مع أن جميع المسلمين مسطحين لكن لا يلزم من التسطيح أن تكون كالقرص)
لأن هذا الأثر فيه بيان أن المقصود بالأرض هو اليابسة ومثل عليها بأنها تلك الأرض التي تحت الكعبة المعروفة. 
لكن نعود لموضوعنا الأصلي:
وانظر كيف الإمام الطبري ينقل مقالات ثلاث فرق منتسبة للإسلام ويقول لا يوجد غيرها وأنها قسمة حاصرة في مسألة العلو فماذا سيقول لنا؟ :
فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة:
الطائفة الأولى: "فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما."
فهذه الطائفة تقول أن الله خلق الأشياء ولم يزل مباينًا لها وطبعًا يقصد بالمماسة هنا أي المخالطة والحلول الذي هو نقيض المباينة كما جاء من كلام الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية وهو ظاهر الكلام على أية حال إلا لمن لا يفهم فهذا لا نخاطبه أصلًا.
والطائفة الثانية: "وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها، هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه."
والطائفة الثالثة: "وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه"
يعني جماعة لا داخل ولا خارج العالم وهم أنتم (الجهمية)
____ 
) في الرد على الأثرية الزائفة )
والآن أن بعد انتهينا من نقل هذه المقالات، فنلاحظ هنا شيئًا غريبًا وهو أن المقالة الأولى والثانية بالكاد هناك فرق بينها، فهي فرقة صرحت بالمماسة (ونكرر ليس المقصود المماسة باليد) إنما المخالطة والملاصقة، التي هي ضد البينونة، فهل هذا مذهب أهل السنة أصلًا؟!
مذهب أهل السنة أن الله قد يمس بصفة من صفاته شيئًا متى شاء، لكن هل صرحوا بأنه ماس العرش بمعنى الملاصفة التي هي نقيض المباينة؟! أبدًا بل قالوا هو فوق عرشه بائن من خلقه وهذا داخل فيه العرش مع كون الآثار قد جائت بأن الله خلق العرش بيده لكن هل مسه حين استوى عليه بشيء غير يده؟ فدونكم آلاف السنين لتأتونا بأثر فيه هذا ولن تجدوا
فلم يصرح أحد بهذا إلا الكرامية غلوّا في الإثبات بجهل منهم، والعجيب أن شيخ الإسلام ينسب لهم أيضًا أنهم وافقوا الجهمية في مسألة منع التسلسل في الآثار في الماضي فقالوا الله له كلمة أولى بالضرورة وفعل أول بالضرورة ومخلوق أول بالضرورة، فلم يكن رازق بحق (اسم وصفة وفعل) إلا بعد أن رزق أول مرزوق، فصار رزاقًا بحق بعد المرزوقين أي بعد بداية جنسهم لا أن جنسهم قديم فقبل كل فرد منهم كان رازقًا فاعقلوا واريحونا!
فالآن أمامنا مذهبين، الأول والثاني، والطبري جعلهم قسيمين، فأيهم مذهب أهل السنة؟ هل الذي فيه تصريح بالمسيس والبداية المطلقة للمخلوقات، أم الأول؟! 
ما أعلمه أنه المذهب الأول، إذ أصلًا لو فهمتم الأول على أنه مذهب الكلابية فالكلابية يصرحون بضرورة أن يكون لله مخلوق أول أصلًأ فما الفرق عندكم ولماذا يذكر هذا الطبري كفرق بين الطائفتين إن كان مشتركًا بينهم؟ ياليتكم تعلمون الفرق بين المقالات حتى تفهموا الكلام على وجهه.
فلما جعل هذا فرقًا بين مذهب أهل السنة والكرامية، فإن جميع ما قال من لفظ أن كذا أول ما خلق الله فهو محمول على الترتيب العلمي من جهتنا لا الفعلي لأن أفعال الله عنده لا أول لها، وقوله أن أول ما خلق الله القلم عمت كل المخلوقات فالمقصود المخلوقات المذكورة، وهو أصلًا ليس عنده مشكلة من إطلاقات مثل أول ما خلق الله الكعبة، أول ما خلق الله القلم مع التصريح بأن قبله العرش، إذا اللغة تحتمل هذا بلا هذه الصرامة التي تتوهمونها بأن هذا إذا قيل فبالضرورة هو أولية مطلقة، لكن نقاشه ما ترتيب أول ما خلق الله من هذا العالم.
أما ترون قول ابن عباس كما روى ابن ابي حاتم في تفسيره: 
"خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عامٍ فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق: اكتب علمي في خلقي، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة."
فهل قوله قبل أن يخلق الخلق معناه أن القلم الذي تقدم ذلك غير مخلوق؟ 
فمسألة الأولية إما معناها أن هذا معناه أول ما فعل الله وهم يرفضون هذا كما نقلنا لكم في مقالات سابقة أو المقصود أول ما خلقه من هذا العالم.
والثاني هو الأليق بقواعدهم وهو طردها بحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكيلانية:
"
الكيلانية (ص: 54)
ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودا مثنى عليه ممجدا ؛ وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال وليس الغرض هنا ذكر هذه " المسألة " وإنما هي طرد حجة الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات وسائر الصفاتية ؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في " كتاب المحنة " : لم يزل الله عالما متكلما غفورا . فبين اتصافه بالعلم - وهو صفة ذاتية محضة - و " بالمغفرة " وهي من " الصفات الفعلية " والكلام الذي يشبه هذا وهذا وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء وقال الإمام أحمد فيما خرجه في " الرد على الزنادقة والجهمية " لما ذكر قول جهم : إنه يتكلم ؛ ولكن كلامه مخلوق . قال أحمد قلنا له : وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه"
وركزوا كيف أن الطبري قرن في الأزلية الكلام بالعلم فطرد هذا في الصفات الفعلية والذاتية بخلاف من يقول أن الأزلي هو الذاتية دون الفعلية.
في الختام، أصلا أنتم نابتة لا قيمة لكم في سوق العلم، فالطبري عندكم ليس حجة إذ أنتم تكفرونه وعندكم هو جهمي، وإلا فيلزمكم التزام (تفسيره) لكلام الإمام أحمد في مسألة اللفظ إذا كان فهمه عندكم معتبر.
نعم يا إخوان، نحن نرد على قوم سفهاء يكفرون الطبري ومن قبله البخاري ومسلم! فهل هؤلاء قوم يستحقون عناء الرد أصلا؟
هذا والله أعلم وتم المقصود والحمد لله.
#الغيث_الشامي


إرسال تعليق