أنواع الضرورات من الدعاوى والأقوال



فإذا أطلقنا القول بالضرورة أو الفطرة بلا تفصيل نقصد:

مبدئيًا نحن نعد الضرورة مقابل النظري الذي يقبل أن يرد عليه معارض.

والفطري مقابل ما يكتسب بالاستدلال ويسبقه غياب العلم بالصحة أو الخطأ فيه بالنفس الكلية قبل هذا.

ومن أنواع الضرورات:

● أن يكون القول ضروريّا بعد التصور لكن تصوره صعب كتصور جمع وضرب الأعداد الضخمة على الرغم من أن عباراتها كلها تتسم بأن العقلاء بعد تصورها يجزمون بصحة العبارة في نفسها دون افتقارها إلى دليل يسبقها، إنما طريق يوصل العاقل لتصورها حتى يقر بصحة العبارة في نفسها في النهاية بعد التصور.

● أن يكون القول فيه نظر من حيث المبدأ لكن من قوة ثبوته عنده صار لا يلجئهم إلى إعادة النظر فيه ورجوحة على غيره وقوته من حيث الترابط ببن مقدماته ونتائجه متينة ومقبول بين أهل الصنعة حتى صار يعد من بديهياتها، فهذا يتفاوت فيه الناس وهو عند العالم أظهر من عند غيره، فالعالم بمجرد أن يتصوره داخل صنعته يقر بصحته من بعد استفاضة قبوله بين أقرأنه.

● ونوع ضروري من وجه نظري من وجه، أيضًا لكن مقدماته طويلة جدا ويعتبر صعب جدا ولا يتصوره إلا عدد قليل من الناس فيكون خاصًّا بالعلماء وحدهم فلا يكون ظاهرا فورا عند اغلبية الناس، ولكنه ظاهر متين بعد الوصول له نظريّا ويحكم بمطابقته للواقع إما بقياس عكسي يقيني (اي معرفة خطأ نقيضه) مثلا، أو بمطابقته للواقع برجحان احتمالي كبير جدا تستيقن النفس أن مثله لا يرد عليه معارض إلا في الذهن.

● وهناك الضرورة الإجتماعية، وهي دعوى مقبولة اجتماعيّا وهي من أسس وعادات المجتمع يجد الشخص المنضم له ضرورة في نفسه أن يتبعه وإلا تسبب لنفسه بمصائب ومشاكل كبيرة واتهام له بالغباء أو الكفر أو ترك ملة الآباء والأولين أو غيرها، فيجد ضرورة في نفسه للبقاء عليه وان يلتمس كل طريق ليسوغه لنفسه.

● والضرورات الدينية، فهذه تتعلق باستفاضة واتفاق العلماء على مسألة من الدين حتى تشيع جدا وتتواتر في العامة والنساء والصبيان حتى يصبح مما لا يرجى زوال العلم فيه من بينهم الا باحتمالات بعيدة جدا جدا وقليلة واستثنائية لأنها تصبح عقائد موروثة مجتمعية تعبر عن هوية المجتمع نفسه أو الدين نفسه كارتباط اسم التوحيد بالإسلام مثلًا أو أن المسلمون يصلون أو نبيهم محمد أو أنهم يرتدون الحجاب ويحرمون الزنا.

● ومن الضرورة ما يكون صفة ملازمة للقول نفسه فمعنى أنه لا يتصور أن يفهمه شخص بلغته إلا ويقر بصحته فورًا بمجرد كونه إنسانًا سليم العقل إلا إن حجبته الحجب النفسية والأهواء والشبهات التي وجد داعٍ نفسٍّي قوي لرفعها فوق الحق الضروري الظاهر.

فهي مما لا يتصور في عاقل أن يماري فيه أو بعد أن يفهم الدعوى الضرورية أن يطلب دليل على صحتها ويدعي خفاء وجه كونها صحيحة عليه.

وهذا ما يتعلق به الفلاسفة في المناظرات على أساس أنهم إن بدأوا بمقدمة معينة أو انتهوا إلى نتيجة معينة يقال أنها ضرورية تلزم الخصم بمجرد كونه يفهم الخطاب حتى ينتهي النقاش ولا يتسلسل إلى ما لا نهاية .

والفلاسفة يزعمون أن هذا النوع يعرف باستقراء المجتمعات البشرية والنظر في الدعاوي التي يتفقون عليها أو يتفق عليها عامتهم فيزعمون فيها الضرورة وأنه لو قدر أن وجد مجتمع كامل ينكر هذه الضرورة لم تعد ضرورة وصار العلم بضروريتها من حكم الوهم وهذا دور واضح إذ مبدأ الاستقراء لاكتشاف الضرورة هذا نفسه يخالفهم عليه عامة العقلاء ولا يتكلفونه فهو ينقض أوله آخره بل محض اتفاق الناس اصلًا على شيء ليس حجة في نفسه إلا مع القرائن في كل مسألة بحسبها وإلا فالانتقادات على مبدأ الديموقراطية موجودة ومتكاثرة وكلها يمكن تطبيقها هنا

بل ما من قول اتفق عامة العقلاء على ضروريته إلا وجدت مدارس فلسفية كاملة من أذكياء الناس تشكك به وتدعي ان عندهم من المعارض الصحيح ما يقدح به أو يتوقفون به ويزعمون عدم صحة أي سبب لقبوله.

#الغيث_الشامي


إرسال تعليق