في الرد على من قال أن هذه المواضع من كلام الإمام البخاري من مذاهب اللفظية أو أنه خالف السلف فيها.
ماذا يقصد الإمام البخاري في هذا الموضع؟
قال الإمام البخاري في خلق أفعال العباد:
حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: «فهل من مدكر» حدثنا عبدان، أخبرني أبي، عن شعبة بهذا. حدثنا خالد بن يزيد، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق بهذا. حدثنا نصر بن علي، ثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن أبي إسحاق بهذا قال أبو عبد الله: " وقال الله عز وجل: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ، فذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43] ، فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق، ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون الله ويحفظونه ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته، ويقال له: أترى القرآن في المصاحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] في الدنيا {وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] وإن قال يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الخلق، ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى "
قلت فالقران ليس بجسم بائن عن ذات الله كما قال الإمام أحمد والإمام الدارمي رحمه الله:
1) قال الإمام أحمد: " فإن كلام الله ليس ببائن منه وليس منه شيء مخلوقا وإياك ومناظرة من أخذل فيه ومن قال باللفظ وغيره ومن وقف فيه فقال لا أدري مخلوق أو ليس بمخلوق وإنما هو كلام الله فهذا صاحب بدعة مثل من قال هو مخلوق وإنما هو كلام الله ليس مخلوق
المصدر: اصول السنة للامام احمد"
وقال:
حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص بن جعفر العطار قال: حدثنا أبو يوسف محمد بن المثنى الدينوري قال: حدثنا أبو بكر [ص:340] محمد بن عمران بن موسى الدينوري قال: حدثنا أبو أحمد الأسدي، قال: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وسألته فقلت: يا أبا عبد الله، لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فما أجابني بشيء، ثم أعدت عليه المسألة، فما أجابني فيها بشيء، قال: ثم خرجت في سفري إلى مكة، فصارت البادية في طريقي على شبه الحبس من شدة الفكرة في أمره، قال: فدخلت إلى مكة، فقطع بي الطواف، فخرجت إلى بئر زمزم، وقبة الشراب، فصليت فيها ركعتين، ثم نعست فرأيت رب العزة تبارك وتعالى في [ص:341] منامي، فكان آخر ما قلت له: إلهي، قراءتي بكلامك غير مخلوق؟ قال: نعم. قال: فقوي عزمي، فلما قضيت حجي وسفري، دخلت بغداد وقد تغير أبو عبد الله تغيرا شديدا، فقلت له: يا أبا عبد الله لفظي بالقرآن مخلوق؟ أو غير مخلوق؟ فانبسط إلي وقال: " ما حالك، توجه القرآن على خمس جهات: حفظ بالقلب، وتلاوة باللسان، وسمع بالأذن، وبصر بعين، وخط بيد؟ " فأشكل علي قوله، وبقيت فيه متحيرا، فقال لي: «ما حالك، القلب مخلوق، والمحفوظ به غير مخلوق، واللسان مخلوق، والمتلو به غير مخلوق، والأذن مخلوق، والمسموع إليه غير مخلوق، والعين مخلوق، والمنظور إليه منه غير مخلوق»، قال: فقلت: يا أبا عبد الله العين تنظر إلى السواد في الورق؟ فقال لي: " مه، أصح شيء في هذا خبر نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو»، ولم يذكر حبرا ولا ورقا "، قال: ثم رجع معي إلى باب الدار وهو يكلمني بهذا، إذ أتته امرأة معها رجل، فقال: يا أبا عبد الله قد ذهبت إلى عبد الوهاب، فما أجابها في المسألة، وتحب أن تسألك، فقال لها: وما مسألتك؟، قالت: مسألتي أن زوجي حلف بالطلاق أنه لا يكلم جارا له سنة، فمر به بعد أيام وهو يقرأ فلحن، فرد عليه، قال: فحرمت من هذا إلى غيره؟ قال: " لا، قال: فاذهب فإنك لم تحنث، إنك كلمته كلام الخالق دون المخلوقين "
2) قال الإمام الدارمي في أشهر تصانيفه والذي قال عنه الإمام ابو زرعة رزق حسن التصنيف: "وأما أن يقاس الكلام من المتكلم بالخير الذي يأتي من قبله، والعطاء الذي يخرج من عنده فإنه لا يقيس به4 إلا جاهل مثل الثلجي5 لأن الخلق قد علموا أن الكلام يخرج من المتكلم بلا شك وأن إعطاء العطاء وبذل المال6 لا يخرج من نفس المعطي والباذل، ولكن من شيء موضوع عنده بعينه، والكلام غير بائن من المتكلم، والمال والعطاء بائن منه، لأنه7 متى شاء عاد في مثل كلامه الذي تكلم به قبل، من غير أن يرد الكلام الخارج منه إلى نفسه ثانية.
ولعله لا يقدر على المال والعطاء الذي خرج منه، إلا أن يعود فيه بعينه، فمن قاس هذا بذاك فقد ترك القياس الذي يعرفه أهل القياس، والمعقول الذي يعرفه أهل العقل.
الدارمي
المصدر: النقض على المريسي"
وشرح كلام الإمام البخاري، أنك لا ترى الله حين قال الكلام فوق سبع سماوات إنما تسمع كلامه وهذا جائز في الدنيا، وحين تنظر للكلمات فأنت تنظر لكلام الله مكتوبا بالحبر المخلوق، ولا تنظر لله حين قاله من فوق سبع سماوات.
قال الله تعالى عن تكليمه لخلقه في الدنيا: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
فإذا هناك بين مقامين: مقام سماعنا كلام الله من بعضنا البعض وبين سماع جبريل عليه السلام كلام الله من الله بصوته سبحانه.
وليس كسماع موسى كلام الله بصوت الله عز وجل.
والقران هو واحد على الحالتين لكن المسموع منه مختلف!، وفي كل الحالات هو منسوب لله أنه كلامه منه بدأ وإليه يعود
فأنت ترى القران مكتوبا ولا ترى الله وهو يقول القران!
قال الإمام البخاري في نفس الكتاب:
"ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن من ذكر الله في القرآن من الجن والإنس والملائكة والمدائن ومكة والمدينة وغيرهما وإبليس وفرعون وهامان وجنودهما والجنة والنار عاينتهم بأعيانهم في المصحف، لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب، ويلزمك أكثر من هذا حين تقول في المصحف، وهذا أمر بين لأنك تضع يدك على هذه الآية وتراها بعينك: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ، فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] هو قرآن، وكذلك جميع القرآن هو قوله، والقول صفة القائل موصوف به فالقرآن قول الله عز وجل، والقراءة والكتابة والحفظ للقرآن هو فعل الخلق لقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} فقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} والقراءة فعل الخلق وهو طاعة الله، والقرآن ليس هو بطاعة إنما هو الأمر بالطاعة، ودليله قوله: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106] ، وقال: {إن الذين يتلون كتاب الله} [فاطر: 29] ، {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] "
وبمثله قال الإمام الدارمي:
"النقض على المريسي ت الشوامي (ص: 50)
ثم احتج المعارض لترويج مذهبه هذا بأقبح قياس؛ فقال: أرأيت لو كتبت اسما في رقعة ثم احترقت الرقعة، أليس إنما تحترق الرقعة ولا تضر النار الاسم شيئا؟ فيقال لهذا التائه الذي لا يدري ما يخرج من رأسه:
إن الرقعة وكتابة الاسم ليس كنفس الاسم، إذا احترقت الرقعة احترق الخط وبقي اسم الله له وعلى لسان الكاتب، كما لم يزل قبل أن يكتب، لم تنقص النار من الاسم ولا ممن له الاسم شيئا. وكذلك لو كانت أسماء المخلوقين، لم تنقص النار من أسمائهم ولا من أجسامهم شيئا. وكذلك لو كتبت «الله» بهجائه في رقعة لاحترقت الرقعة وكان الله بكماله على عرشه. وكذلك لو صور رجل في رقعة، ثم ألقيت في النار، لاحترقت الرقعة، ولم تضر الصورة (1) شيئا.
وكذلك القرآن، لو احترقت المصاحف كلها لم ينقص من نفس القرآن حرف واحد, وكذلك لو احترقت القرأة كلهم، أو قتلوا، أو ماتوا، لبقي القرآن بكماله كما كان، لم ينتقص منه حرف واحد؛ لأنه منه بدأ، وإليه يعود عند فناء الخلق بكماله غير منقوص.
وقد كان لإمامه المريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن.
كان القرآن عنده مخلوقا من قول البشر، لم يتكلم الله بحرف منه في دعواه، وكذلك أسماء الله عنده من ابتداع البشر من غير أن يقول الله: {إني أنا الله رب العالمين (30)} "
ويقول أيضًا: وَنَفْسُ القُرْآنِ كَلَامٌ غَيْرُ مُجَسَّم فِي كُل أَحْوَاله، إِنَّمَا يُحَسُّ بِهِ إِذَا قُرِئَ، فَإِذا زَالَت عَنهُ القَرَأَةُ؛ لم يُوقَفْ لَهُ على جِسْمٍ وَلَا صُورَةٍ، إِلَّا أَنْ يُرْسَمَ بِكِتَابٍ. هَذَا مَعْقُولٌ لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا كُلُّ جَهُولٍ. قَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ -إِنْ شَاءَ الله- وَلَكِنَّكُمْ تُغَالِطُونَ، وَالعُلَمَاءُ بِمُغَالَطَتِكُمْ عَالمون وَلِضَلَالَتِكُمْ مُبْطِلُونَ. وَيَكْفِي العَاقِلَ أَقَلُّ مِمَّا بَيَّنَّا وشَرَحْنَا مِنْ مَذَاهِبِكُم،
وقال: وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لِصَاحِبِهِ».
فَقَالَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ: إِنْ قُلْتُمْ بِهَذَا الحَدِيثِ كَانَ نَقْضًا لِمَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَاءَى شَيْءٌ فِي صُورَةٍ، إِلَّا وَذَلِكَ المُتَرَائِي وَالمُتَكَلِّمُ فِي قِيَاسِ مَذْهَبِهِ مَخْلُوقٌ.
فَقَدْ فَسَّرْنَا هَذَا لِهَذَا المُعْجَبِ بِجَهَالَتِهِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ، وَلَا جِسْمٌ، وَلَا يَتَحَوَّلُ صُورَةً أَبَدًا، لَهُ فَمٌ وَلِسَانٌ ينْطِقُ بِهِ ويَشْفَعُ، قد عَقِلَ ذَلِكَ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَ المَعْقُولُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ ثَوَابٌ يُصَوِّرُهُ الله فِي أَعْيُنِ المُؤْمِنِينَ، جَزَاءً لَهُمْ عَن القُرْآن الَّذِي قَرَءُوُه."
انتهى كلامه
ويقول ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله "وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد"
ومعلوم أن الكتابة التي في المصاحف تبيد وتحترق ولا يحترق المكتوب الذي هو كلام الله كما بين الإمام الدارمي، والعقل يوجب التفريق بين مطلق الكتابة والحبر وبين المكتوب المنظور إليه وهو كلام الله عز وجل، ومع ذلك فالذي يقع عليه الحرق هو الكتابة لا المكتوب! إذ المكتوب ليس بعينه في المصحف إنما هو مكتوب!
فالفرق بين قولنا كلام الله مكتوب في المصحف وهو على ما هو غير مخلوق منسوب لقائله
وبين أن نقول "الله بذاته وهو يتكلم موجود في المصحف" وهو قول سخيف
وهذا الذي ننكره وهو الذي قصد به الأئمة أن فعل الله القائم بذاته الغير بائن ليس موجود في المصاحف انما مكتوب في المصاحف وما سمعه جبريل وهذا معنى "منه خرج" اي منه سُمِعَ.
#الغيث_الشامي