في بطلان طريقة المتكلمين في الجدل والمحاججة

4 وقت القراءة

 "الآفة في الحقيقة ليست في السؤال: هل يظهر للمتكلم عند مناظرته الفلاسفة ومجادلتهم، أن مخالفه من فلاسفة الإلحاد جاحد للحق مكابر مماحك، أم لا يظهر له ذلك! فنحن لا نزعم أن المتكلمين يخفئ عليهم جحود وتلاعب خصومهم من الفلاسفة، ولكن السؤال: ما هو ضابط المتكلمين في علم الجدل عندهم لإنهاء المناظرة والمجادلة مع مثل هذا وكيف يتحققون به؟ 

إن قالوا: اكشف الجحود والمماحكة وفضح الخصم» أو «انقطاع المعاند» أو «إلزامه بلوازم ظاهرة» أو نحو ذلك، قلنا فما حد ذلك الكشف والفضح وكيف يتحقق؟ وكيف تضمنون الانتهاء فيه إلى نهاية يتفق جميع العقلاء بضرورة العقل على أنها هي القاضية الحاسمة التي لا نقد بعدها ولا اعتراض؟ بعد كم رد ورد مقابل في تصوركم يتحقق ذلك الانكشاف وما ضابطه، مع ما يغرق فيه الطرفان من تعقيد في تنظير الكليات والعموميات والاصطلاح المجمل في أكثره والتكلف وتشقيق الكلام وزخرفته؟ وكيف العمل إن لم ينقطع الخصم أبدا وأصر على المواصلة والمجادلة والتنطع على كل كلمة يتكلم بها المتكلم، يشوش عليها ويحيلها عن موضعها (وهو أمر يحسنه الفلاسفة ويجيدونه كما هو معلوم)؟

ما صفة «الانقطاع» هذا وما حده وما ضابطه؟ أن يشهد الفيلسوف الملحد أنه قد عجز وسقطت حجته، ويكف عن المناظرة في تلك المسألة من أجل ذلك؟ سلمنا بأنه فعل (كما سيأتي معنا مثاله في قسم لاحق من هذا الكتاب)، فما ثمرة ذلك الانقطاع علن التحقيق وقد عرفنا أن لديه هو وأقرانه من نحو تلك المغالطات والدعاوى الساقطة (التي ترتبط كل واحدة منها ببعض المقدمات التي يجب اعتبارها مسلمة عقلية حتن يستقيم هذا البرهان أو ذاك) ما لو أفتئ الواحد منا عمره في الرد عليه فلن يأتي على بعضه فضلا عن مجموعه (ولن يأتي فيه على الأغلب إلا بما يزيد الحق غبشا والتباسا!)، وعرفنا أنه (أي الفيلسوف) يشترط على خصمه أن يرد على تلك البراهين والدعاوئ الفلسفية» كلها بنفس تلك الطريقة التي يتعلمونها ويتدربون عليها (الطريقة التحليلية المنطقية) حتن «يقنعه» بأنه ليس على شيء؟

ثم لو أنه انقطع في هذه المناظرة العلنية أو تلك، سواء بالتصريح بالعجز أو بمجرد الانصراف والسكوت، ثم جاء غيره من بعده ليقول «إن هذه الحجة التي انتهت إليها المناظرة ليست قاطعة وما كان لصاحبي أن ينقطع منها، ولو أنه تدبر لأمكنه الجواب بكذا و كذا» (وما أكثر ما يكون ذلك بين الفلاسفة والمتكلمين واللاهوتيين علن اختلاف نحلهم!)، فكان ماذا؟ أقول: ما دامت مادة النزاع والجدال قضية بدهية ضرورية من الأصل، فلا رجاء في الوصول من المناظرة عليها إلى شيء ذي بال أبدا، مهما جاء المتكلم ببراهين تقوم على مقدمات بدهية هي الأخرئ، لأن المجادل المتفلسف لو كان صادقا في طلب الحق، بحيث ينقطع عند الحق البدهي الظاهر ويسلم به لخصمه المبدأ بمجرد أن يطالب بها، ما بمجرد أن يسمعه، ويلتزم لوازمه الواضحة من حيث

طلب المناظرة في مسألة بدهية فطرية من الأساس! فمجرد طلب التقديم بحقائق بدهية لإثبات حقائق أخرئ بدهية مثلها، دور منطقي سخيف كان ولا يزال المتكلمون يستدرجون إليه في كل مرة وهم يزعمون أنهم ملتزمون بإفحام الخصم وقطعه بالحجة بمجرد أن تظهر، فلا يقع الانقطاع إن وقع إلا من ارتباك الخصم أو ضعف نظره أو ضيق صدره، لا من انتهاء الجدال إلئ برهان لا إجمال فيه ولا اشتباه و لا مدخل لنقد أو اعتراض! وكيف ينتهي إلى شيء وهو إنما بدأ بالمعاني البعيدة المجملة رجاء إثبات حقيقة بدهية لا تخفن على عاقل؟ كيف يوصل منه إلن خير أو حق وهو إنما بدأ بقبول زعم المخالف خفاء الحق البدهي الواضح وافتقاره إلى دليل نظري يثبته؟"

- الكشّاف المبين لما في نفوس المستكبرين، أ.د. أبو الفداء حسام مسعود، الطبعة الأولى، ص50.

___

قلت: ويجدر الإشارة هنا إلى احتجاج البعض أن شيخ الإسلام قال بإمكان الاستدلال على البديهيات ونقول القضية هنا قسمين:

1 - أن شيخ الإسلام انتقد تطويلات المتكلمين بلا فائدة وأنها كلحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وقال إن بعض النفوس قد تنفع معها الطرق الطويلة لعادتها على ذلك وحبهم لذلك فينفعهم ذلك في دخولهم في الدين، مع كونه مرض في الأساس وجب العلاج منه لكن هنا من حيث تقديم المصلحة الشرعية وهو أن مصلحة دخولهم للدين أولى من علاجهم من مكابرتهم للحق وعدم قبوله إلا بصعوبة ومقدمات طويلة خفية وكثيرة.

2 - أن شيخ الإسلام جوز إلزام المنكر لبعض البديهيات الفطرية ببعضها الآخر مما يسلم هو به لتلازمها، فهو يرى أن البديهيات والقضايا الضرورية تتلازم ولا ينقض بعضها بعضًا، فهذا يحصل على جهة الإلزام والنقض وليس التعليم، ولا حتى الإيجاب، هو لا يوجب أن تستدل ببديهة كذا على كذا بل هو يرى أن قضية وجود الله أظهر من هذه البراهين أساسًا، فلا يوجد ترتيب موضوعي لأن هذه البديهة هي التي يجب البداية منها مع الخصوم دائما للاستدلال على الأخرى، إنما ينظر بحسب حال المخاصم وما يسلم به من البديهيات حتى نلزمه بما يتلازم معها، هذا ممكن نعم.

3 - أن فكرة الإلزام نفسها مبنية على أن يجد خصمك في نفسه ضرورة أو رجحان لكلامك على كلامه، فإن كان هو لا يرى أن الضرورات العقلية أصلًا يجب الاذعان لها فمن باب أولى أن لا يرى نظرياتك أنت ملزمة وهكذا تقتل فكرة الإلزام والاستدلال نفسها فلا فائدة لإكمال النقاش معه إلا العبث المنهجي، لذلك كان بعض السلف يقولون لا تناظر إلا من تراه يرجع، بمعنى أنك تعلم منه أنه مازال قد تبقى عنده من الصدق شيء يجعل هناك إحتمال أن يرجع، وهذا قليل في عامة الملاحدة كلما طال عليهم العهد وكثر اتباعهم، أو حتى رؤوس الملل الأخرى فهذا لا يحصل فيهم إلا في القليل النادر، وتراه لا يعود للدين إلا وهو يريد أن يصير رأسًا متصدرًا فيه يخترع من البدع ما يشاء على شرطه الفاسد الذي قبل أن يدخل الدين بناء عليه والتنازلات والتخفيضات التي قدمها له المتكلمين رجاء أن يدخل!

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق