حقيقةً يتكرر عجبي عندما أرى مجموعة من الكتب متداولة بشكل كبير بين الشباب، خصوصًا المهتمين بالدعوة منهم، وأراهم يمدحونها أشد المديح، وينصحون بها، ثم إذا ما حاققتهم عن أفكارهم تجدهم يسفهون الأفكار الرئيسية لهذه الكتب!
ذكرت هذا عندما كان كثير من الدعاة المتخصصون في الرد على الإلحاد يروجون لكتاب "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين" وهو كتاب قوي في بابه، لكنهم ومع ذلك معظم موادهم تنقضها الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب خصوصًا في نقاط التماس بين الوحي والغيب ونظريات الطبيعيين الغربيين المتفق عليها أكاديميا في هذا العصر، وسبق أن نبهت أيضًا لتحليل ربما هو ذاتي لهذه الظاهرة لكن له حظه من النظر والله أعلم.
وهو أن العقلية الحركية التي تعتمد التجييش والتجميع في غير موضعه (سمك لبن تمر هندي) فترى أن جميع الجهود محمودة طالما أنها تصب في صالح نفس النتيجة حتى لو كانت تنقض بعضها بعضًا!! الأهم أنها تريد أن تصل لنفس النتيجة ومتعايشة إجمالًا مع باقي الأفكار بحيث لا تكفر المخالفين أو تعتدي على أشخاصهم.
وهذا ما لاحظته يتكرر مع كتاب "سلطان الثقافة الغالبة" للدكتور ابراهيم السكران، حيث أن فكرة الكتاب الرئيسية هي تسليط الضوء على مسألة التأثر بالثقافة الغالبة ومحاولة تطويع النصوص لها أيّا كانت سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ميتافيزيقية.. إلخ.
وأنقل لكم مثلًا قوله:
"وقد كان كثير من المصلحين في تلك الحقبة التاريخية يعتقدون أنهم بتطويع الشريعة للثقافة الغربية الغالبة يحمون الشباب المسلم من الإلحاد ويخففون في نفوسهم من مرارة الفارق الحضاري، ولكن المفارقة أنه حدث العكس"
والكتاب بما أنه يتحدث عن هذه الظاهرة أصلًا فهو مليء بمثل هذا فليراجع..
ومن هنا نأتي لما أسميته "ظاهرة التجهم العام" وقد يجد البعض حساسية مع هذا المصطلح إلا إنني أنبه أن هذا ليس وحيًا بالنهاية، فلتسمّ هذه الظاهرة بما تشاء المهم أن تركز على محتواها المعنوي، فالقدر المشترك بين طوائف الجهمية على خلافهم الشديد فيما بينهم هو تقديم فلسفة مستوردة خارجية على الوحي لكن دون رده بشكل صريح، إنما بتطويعه لها بالتأويل أو الرد أو التفويض، إلخ.. من أساليبهم في معالجة النصوص كلها لتوضع في قالب هذه الفلسفة، بل هذا صنيع الجهم بن صفوان نفسه مع الشريعة حيث طوعها لتناسب مقالاته التي يستخدمها في المناظرات مع خصومه ظنّا منه أنه يدور مع مصلحة الشريعة العامة!
فيتعامل الشخص مع الوحي بانتقائية معيارها الأوحد هو الموافقة بين هذه النظرية وهذا الدين مهما كان هذا يعود على أصول هذا الدين بالهدم.
وقد يقال إن هناك معنى هام لا يمكن وصف أحد بالتجهم دون أن يتحقق فيها، وهو إنكار صفة ما لله سبحانه بسبب تقديم هذه الفلسفة لا بسبب شبهة شرعية محضة.
وأقول صدقت، وأنا أقول إن هذا التجهم العام لازم للمقصود ذكرهم سواء بالمقال أو بلازمه، فإن كل من يقدم فلسفة بشرية على الوحي الإلهي المنزل فلا بد أنه عطل صفة ما قد وصف الله بها نفسه، مثلا: صفة الهداية، صفة البيان في الكلام الإلهي.
فرأينا كيف اعتدى بعض أصحاب الإعجاز العلمي على تفاسير السلف والصحابة وشككوا بتبيان الرسول لهم وطعنوا بعقولهم وفتحوا الباب للتأويل اللانهائي للقرآن الكريم بحجة أن هذا يفتح بابًا عظيمًا لإدخال الناس للإسلام! وحقيقة ذلك هو إخراج الإسلام إليهم لا إدخالهم هم إليه!
يقول الدكتور أبو الفداء ابن مسعود سلط الضوء على هذه الظاهرة في كثير من مواده فمثلًا يقول في كتاب معيار النظر:
"ما دعونا أحدا يوما قطّ لأن يصبح "فيلسوفا" وما كنا من دعاة السفسطة أو اللغو أو العبث، والله نسأل أن يعصمنا والمسلمين من ذلك، ولكن ما من أحد يغلو في شيء مما عند بعض النظار من أهل هذه الصنعة أو تلك، ويفرِط فيه إلا رأيته يعده هو العلم كله والقطع كله واليقين كله، ويعدّ من خالفه فيه سفساطا جاهلا هالكا، والله المستعان! وقد خبرنا من قبل رفع المتكلمين الأوائل أرسطو ومنطقه المشائي وفلسفته فوق الكتاب والسنة (بدعوى أن قواعد منطقه لا غنية للنظار بل لعموم العقلاء عن تعلمها)، واليوم نرى رفع طوائف من المتكلمين الجدد نظريات كارل ماركس في الإنسانيات (بدعوى أن الاشتراكية هي الحق ومن ثمّ فلابد وأن تكون من صميم الإسلام)، ورفع غيرهم النظرية الديموقراطية والفلسفة الليبرالية في الأخلاقيات والتشريع (بدعوى أن الديموقراطية هي السبيل الأقوم، فلابد وأن تكون هي الشورى المشروعة في القرآن)، ورفع غيرهم نظريات العلم الطبيعي وأدواته وتجاربه (بدعوى أن "العلم الحديث" – بهذا الإطلاق – حق قطعي، فلابد وأنه يعاضد النص الشرعي ولا يخالفه، بل إنه يبرهن على صحته!)، وهكذا الجهمية نحلة واحدة! كلهم جعل القطع واليقين العقلي فيما انتحل من نظريات الفلاسفة الذين عاصرهم وافتتن بهم، ثم رجع على نصوصنا وتراثنا بالتأويل والتلاعب والعبث بدعوى أن هذا من الانتصار للملة ونشر الدعوة ورفع راية الشريعة بين أهل هذا الزمان، والله المستعان!"
هذه ومضة وتنبيه على هذه الظاهرة، لك أن تختلف معي في التشخيص، أو العلاج، لكن مما لا خلاف فيه أن أصل هذه الظاهرة موجود وموضوعي ويحتاج تشخيصًا دقيقًا وعلاجًا أدق.
#الغيث_الشامي