قواعد في قياس الأولى

5 وقت القراءة


قال الإمام أحمد بن حنبل في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة: 

" لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر.

فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.

فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء. ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلا. فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة؟ أليس لها جذع وكرب، وليف وسعف وخوص وجمار؟.. واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها1 فكذلك الله، ((وله المثل الأعلى)) بجميع صفاته إله واحد"

فالمستفاد هنا والذي غاب عن أذهاب بعض الشباب حتى صار قياسهم قياس تمثيل أو اشتراط عقلنة الغيبيات عن بكرة أبيها قبل الإيمان بها:

• الإمام أحمد لم يتكلف قياس الأولى ابتداء لتقرير العقيدة بين تلاميذه إنما تكلفه للرد على المعتزلة ولسان حاله يقول، أنتم تقولون لا يعقل شيء واحد متعدد الصفات ونحن نقول هو معقول في المخلوق الضعيف الناقص فكيف برب العالمين الذي هو أكمل من المخلوق قطعًا ومعلوم أن تعدد الصفات أكل من عدم الصفات بالكلية، فأي كمال هذا الذي تكون صفته مشابهة للعدم الذي هو أنقص من الوجود المخلوق!.

• فالإمام أحمد كان مؤمنًا بصفات الله وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قبل أن يخطر على باله مثال النخلة هذا في المناظرة وقبل أن يخوض أي مناظرة أصلًأ، فلم يشترط على نفسه أن يعقل الشيء في المخلوقات حتى يقبله في الغيبيات، فهذا الشرط أكثر سوءًا من شرط المتكلمين وهو مجرد الإمكان العقلي!، هذا اشتراط الإمكان الخارجي!، بمعنى أنني لا أؤمن بصفة لرب العالمين حتى أرى لها آية بعيني رأسي وبعدها أقول "ولله المثل الأعلى" فأي مثل أعلى إذا؟! هذا مثل أدون يارجل، هذا تشبيه، إن كنت لا تقبل الصفة لرب العالمين حتى تعقل لها نظيرًا في الشاهد فأنت مشبه أصلًأ لا تقبل أن تصف ربك ابتداء بشيء وأنت مدرك أنه لا مثيل له في الشاهد.

• فهل الإمام أحمد قصد أصلًأ أن يقول للمعتزلة كيفية صفة الله وتعدد الصفات فيه ككيفية تعدد الصفات في النخلة ؟ أم قصد الإشتراك المعنوي الذي ليس فيه إلا التواطئ الذهني المعنوي وحسب مع كونه يقول "الكيف مجهول"؟ بل قالها في نفس الكتاب ونفس السياق لمن يراجع!.

• فلذلك هو لم يشترط على نفسه أي مثال كما يفعل المعتزلة وأضرابهم ممن شبه ثم عطل سواءً في الأفعال أو في الصفات، بينما آمن أولًا ثم لما عاند أحدهم وكابر أشار له إلى آية وهي قدر مشترك معنوي من الكمال أعطاه الله للمخلوقات فإن كان جائزًا لها جاز لله من باب أولى بما هو أكمل منه في الكيفية وأكثر منه تحقيق لمعنى الكمال "ما يسمى التواطئ المشكك"، ولمن لا يفهم هذه المصطلحات ليس عيبًا أن تدرس أي شرح لمتن التدمرية لشيخ الإسلام قبل أن تتفلسف في ذات ربك سبحانه وتقول بعدها "ولله المثل الأعلى" وأنت غارق في التمثيل أصلًا.

• فالله سبحانه أخبرنا أنه أعد لنا في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت و"لا خطر على قلب بشر" فكيف بصفاته هو سبحانه التي نعلم قطعًا ويقينًا أنه لا شبه له ولا كفؤ ولا مثيل! كيف تظن من نفسك أنك إن جاوبت الأشعري أن الله ينزل ولا يقتضي ذلك خلو العرش منه وأن هذا معقول في المخلوقات كأن تكون جالس وتنزل بذاتك من الكرسي لتأخذ شيء من الأرض وأنت ما زلت جالس، أن الرب فعلًا يفعل هذا كالذي تفعله أنت !!، هذا قياس تمثيل إذًأ، إنما يقال إن الله ينزل كيف شاء ولا مثل له وليس كمثله شيء، إنما نحن نقول قد عقلنا هذا في المخلوق الناقص أنه قادر عليه فكيف برب الأرباب القادر على كل شيء والذي لا نحيط علما بكيف ذاته حتى نحيط علما بكيف أفعاله فنقول هذا يقدر عليه وهذا لا أراه يقدر عليه!، هذا هو سبب المثال لا غير وليس أن نقدم له صورة ذهنية تريحه حتى كلما سمع حديث النزول تخيلها فظن أنه قد فهم حديث النزول كيفًا ومعنى!! لا حول ولا قوة إلا بالله، لك الله يا عقيدة المسلمين.

هذه فضفضة لأنني رأيت كثير من الاخوة صار يشترط هذه النوعيات من الأقيسة في كل صفة وفعل ويغرق في استلزام الصفات بعضها من بعض وكأنه أدرك كيف الذات وأدرك كل كيفية ممكنة الوجود فقط لكونه يحصل الكيفيات بما يراه في الشاهد وهو لا يعلم أنه لولا الكيفيات التي يراها ويتعلم منها المعاني لما عقل شيئًا أصلًأ، ودونك أن تحاول أن تفكر بأي شيء خارج عن الكيفيات المعهودة والمعاني التي تعلمتها من لغة أهلك وأنت صغير ولن تستطيع مهما تكلفت ذلك، وقصارى جهدك أن تركب المعاني التي تعرفها بعضها ببعض كقولك "حصان مجنح" فأنت حتى في المعاني قاصر وقد يكون الله سبحانه موصوف بصفات أنت لا تفهم معناها ولم يخبرك عنها، وكذلك أسماء لا تفهم معناها لو أخبرك بها إذ لا قدر مشترك معنوي بينها وبين شيء من الشاهد، فالله سبحانه لم يخبرك إلا ما تفهم معناه، أما ما لا نفهم معناه بالكلية فاستأثر العلم به وحده سبحانه.

فكيف تظن بنفسك أنك صرت كامل العلم ومحيطًا بكل الكيفيات شاهدًا وغائبًأ ثم تقول، أنا لا أعقل أن يوصف الله بسمع دون أن يكون له أذن! أو ضحك دون فم! أو كلام دون أضراس! أو أضراس دون فم! أو كذا دون كذا، ومعلوم أن هذا ليس من نفس معنى الصفة فليس القول فيه كالقول في الحد من العلو أو الجلوس من الاستواء إذ هذا من نفس معنى الكلمة فالحد من معنى العلو لا غيره، فهو جزء من كل، والجلوس هو نفس الاستواء عند من فسر بذلك وهذا ما دفعه لهذا التفسير ولكنه يقول أيضًا في الجلوس الكيف مجهول ولا يقول جلوس كجلوسنا كما لا يقول استواء كاستوائنا فهذا التفسير تفسير معنى واحد بلفظ آخر للتقريب وليس تغيير المعنى وتأويله أصلًأ! لأن من فسر الاستواء بالجلوس هو يرى أن معنى اللفظين واحد أصلًا! وأن هذا مراد المتلكم بهذا اللفظ.

أنا والله أحب أن يدرس الناس اعتقاد المسلمين من أمهات كتبهم ولا يظن الظان أنه بقراءته برأسه لكتب السلف أنه يستطيع بنفسه أن يستنبط عقائدهم على مبدأ "هؤلاء مجموعة دراويش تكلموا بكلام عوام فلذلك لا يبعد أن أستطيع أنا وأنا شبه عامي أن أستنبط قواعدهم البسيطة" وإذا أقول عن ابن تيمية والمعاصرين و و و و أنهم كلهم متكلمين متفلسفين لأنني لا أفهم ما هذا الكلام المعقد الذي يقولونه، فها أنا فهمت عقيدة السلف بدون هذا الكلام، نعم عقيدة السلف فطرية لا شك ، ولكن أنت ترد على الخصوم بأقيسة من رأسك وتقول هذا لازم من هذا وهذا لازم من هذا ولو أنك قلت قال السلف كذا وكذا وسكت لأرحت لكنك تعتقد أنك تحصلت على قواعد وجاز لك أن تفرع عليها نتائج جديدة من عندك هنا المصيبة!

فصنعة استنباط القواعد الدقيقة وصياغتها والاحتجاج بها شيء والدفاع عن العقيدة ضد شبهات المخالفين شيء، ومجرد اعتقاد عقيدة المسلمين الفطرية شيء آخر فلا تقس هذا على هذا وتقول أن كل من فصل وتكلم وصاغ وقعّد بكلام أنت لا تفهمه فقد تفلسف "وتكلم" ولا تجعل كسلك مبرر لجهلك فهذا والله من الاغترار بالنفس والكبر الخفي.

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق