في معنى الكمال الإلهي

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحقَّ بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحقَّ بالتنزيه منها لأنه عن العدم ابعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبتت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل العلى كان ذلك اعتبارًا صحيحًا وكذلك إذا نفى عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطرق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية فاستعملوا مثل هذا فيما أثبتوه لله تعالى وفيما نفوه عنه وفيما ردوه من قول الجهمية"

- بيان تلبيس الجهمية، (2/250)

___ 

قلت: فهذه قاعدة مهمة في بيان وإيضاح برهان الأكملية لشيخ الإسلام، بمعنى إبراز التلازمات الفطرية فيما بينها وكيف أنها تستلزم الكمال الإلهي المعروف بشكل أظهر في الفطرة ويمكن إستغلال هذه التلازمات لإلزام منكره بما يسلمه من مقدمات يلزم منها إثبات الكمال الإلهي

على أية حال لست في صدد شرح برهان الأكملية فليراجع في رسالة شيخ الإسلام وهناك من شرحه مثل الشيخ النورستاني.

وأما القاعدة المذكورة هنا فهي أن كل كمال فهو وجودي أو لازمه وجودي، وكل نقص فهو عدمي أو لازمه عدمي.

فالكمال الذي أثبته الله سبحانه لنفسه إما أنه كمال لا نقص فيه لذاته بوجه كالعلم والحياة والقدرة والوجه والجمال والكلام، وإما أنه نفي لنقص يستلزم كمال الضد مثل نفي الشريك فهو يستلزم كمال الوحدانية والقهر، ونفي النوم ويستلزم كمال الحياة والقيومية والتدبير والبصر وغيرها، فكل صفة وجودية من كل وجه لا يلزم منها عدم لذاتها فهي كمال وكل صفة نقص ولو كانت وجودية لكن يلزمها عدم في صفة من صفات الذات فهي نقص.

فهل هذه القاعدة هي قاعدة معيارية للتمييز بين الكمال والنقص؟

أبدًا، فإن التمييز بين الكمال والنقص فطرة ضرورية أظهر من هذا بل وضع هذا المعيار الزائد على أنه معيار تأسيس معرفي لا أنه مجرد تلازم ضروري مفهوم لمعنى الكمال يجعل الأمر عسيرًا ويفتح الباب للسفسطة لكن الفادة الحقيقية من هذه القاعدة بيان أن الكمال لا يكون في العدم المحض لأن الكمال لا يكون إلا موجودًا أما مجرد العدم فلا مدحة فيه ومثال ذلك قولنا إن هذه الطاولة لا تظلم، فهذا لا يثبت أنها عادلة!

فالقاعدة تنص باختصار:

أنه لا يمكن أن يكون كمال وجود الرب مساويًا لعدم المخلوق

وهذا فيه إبطال لما وصف المتكلمين والفلاسفة مبعودهم من السلوب المحضة كقولهم لا كذا ولا كذا ولا كذا دون أن يثبتوا كمال ضدّ مخصوص لكل سلب من هذه السلوب، بل وصفوه بما هي صفة الممتنع لذاته.

ويبين شيخ الإسلام أن هذا أمر ظاهر لعوام الناس أصحاب الفطر السليمة حيث يقول: 

" والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدًا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه وفطنته وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه"

هذا والله أعلم

#الغيث_الشامي


إرسال تعليق