❁ جزء نفيس من كلام الإمام المزني تلميذ الشافعي (175 هـ- 264 هـ) في الصفات الذاتية والفعلية، مع التعليق المفصل: ❁
❑ يقول الإمام المزني رحمه الله:
"وكلمات الله وقدرة الله ونعته وَصِفَاته كاملات غير مخلوقات دائمات أزليات وَلَيْسَت بمحدثات فتبيد وَلَا كَانَ رَبنَا نَاقِصا فيزيد
جلت صِفَاته عَن شبه صِفَات المخلوقين وَقصرت عَنهُ فطن الواصفين قريب بالإجابة عِنْد السُّؤَال بعيد بالتعزز لَا ينَال
عَال على عَرْشه بَائِن من خلقه مَوْجُود وَلَيْسَ بمعدوم وَلَا بمفقود" (1)
____
❑قلت: قوله وكلمات الله وقدرته غير مخلوقات دائمات أزليات فيه تنبيه لمسألة في غاية الأهمية وهي بدعة التفريق بين الصفات الفعلية والذاتية.
❖ وأولًا هذه تقدمة:
❖ كل شيئين في الوجود بينهم قدر مشترك وقدر مميز
فمثلا:
❖ حتى الخالق والمخلوق بينهم قدر مشترك وقدر مميز
❖ فالقدر المشترك مثلًا الوجود، والمميز هو كيفية هذا الوجود
❖ فالمميز هو وجه الاختلاف والمشترك هو جهة فيها اشتراك معنوي مع اختلاف الكيفية.
✪ وكل صفات الله بينها قدر مشترك وقدر مميز:
فالقدر المشترك بينها كلها هي كونها صفات لرب العالمين
وأما المميز فهو ما يتعلق بمعنى كل صفة وما يميزها عن غيرها، فالعلم غير اليد مثلًأ من حيث معناها، لكن مثلها من حيث أنها صفة لله سبحانه.
✪ وكذلك الصفات الذاتية والصفات الفعلية بينها قدر مشترك وقدر مميز:
فالقدر المشترك انها صفات كمال، والمميز هو أن هذه فعلية وهذه ذاتية.
✪ فما الفرق بين الفعل المعين والصفة الفعلية؟
هذا واضح حتى في المخلوق لكل من تأمل ذلك
فهناك فرق بين أن أخبرك أن الإنسان يتنفس، هكذا بدون تقييد بزمان معين ومكان معين وفعل معين.
وبين أن أخبرك أنني الآن تنفست بقوة مثلًا، فأنا تكلمت عن فعل معين وليس صفة فعلية، وقيدته بزمن محدد وسياق محدد.
✪ ومن هنا دخل الغلط ونشأت بدعة التفريق بين الصفات الفعلية والذاتية، في قولهم أن الذاتية أزلية لازمة لله، أما الفعلية فمنهم من قال لها بداية، ومنهم من قال نتوقف ولا نقول لها بداية أم لا!
فقاسوا كون الله فعال وخلاق ورزاق هكذا بإطلاق على صفة الاستواء مثلًا، التي أخبرنا الله أنه خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش، وأنه يوم القيامة يجيء ويحاسب العباد، فكما ترى هذه أفعال معينة في سياق معين حددت بزمان، فواضح أنها ليست أزلية إلا من حيث قدرة الله عليها وجوازها عليه، أما الصفات الفعلية التي لم تقيد بزمن محدد بل كان الاتصاف بها مطلقا كمال، فلا يجوز أن تحدها بسياق محدد كأنها فعل معين، بل الله يخبرك بأنه من صفاته الفعلية اللازمة أنه رزاق وخلاق وفعال.
ولا يصح لكم أن تقولوا أن الصفة الفعلية هي مجرد القدرة على الفعل!
إذ أجمع أهل السنة أن الله قادر على أن يظلم ولكنه لا يفعل فهل يسمى ظالمًا لمجرد القدرة الأزلية على ذلك؟!
يقول الإمام البخاري في خلق أفعال العباد عن شيخه نعيم بن حماد وهو شيخ مشترك بينه وبين الإمام المزني:
قال الإمام أبو عبد الله البخاري:
"لقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق، وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت" (2)
وقال الإمام الدارمي:
"لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك. (3)
كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة"
وهؤلاء كلهم شافعية وكلهم عاشوا في نفس زمن المزني ودرسوا عليه وعلى أقرانه وعلى شيوخه
فالكلام من نفس المشكاة، لذلك تجد أن الخلال وعبد الله بن أحمد ينقل أن الإمام أحمد أعجبه كلام لوين عندما قال "
"والله لم يزل متكلمًا قبل أن يخلق الخلق" (4)
فهناك فرق بين صفة فعلية نوعية، وبين فعل معين حدده الله بزمن، فتحديد الله لفعل معين بزمن يمنع من كونه أزلي، كخلقه لآدم مثلًا، فلا معنى أن يبقى يخلق آدم منذ الأزل، لأن خلق المخلوق تحصيل حاصل وهو ممتنع، ألا ترى أن الإمام أحمد قال في الرد على الزناقة والجهمية:
"وقال الله لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] .
لا يعني إني خالق للناس إمامًا؛ لأن خلق إبراهيم كان متقدمًا" (5)
فالفعل المعين يكون في زمن محدد ويفرغ الله منه ثم يفعل آخر مثل استوائه على العرش بعد أن فرغ من خلق العالم.
أما الصفة الفعلية فلم يحددها الله بزمن وهي صفة لازمة له وهي كمال، مثل كونه خلاق وعليم ورزاق وكريم، فلا يجوز أن يسأل متى تكلم الله أول مرة؟!
كما تسأل عن الطفل المولود متى تكلم أول كلمة وماذا كانت هل هي "بابا" أم "ماما" ! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
أليس "فعال" صيغة مبالغة من فعَلَ: كثير الفعل ! (6)
فكيف يكون الحال كذلك والرب عند أصحاب هذه البدعة لم يكن فاعلًا منذ الأزل شيئًا لا فرق بينه وبين الصنم والميت لمدة غير محدودة، ثم لمدة محدودة صار يفعل، فالمدة اللامحدودة أكبر بلا مقارنة من المحدودة، فكيف يكون من فعل في المحدودة وتعطل في اللامحدودة كثير الفعل عندكم؟ بل هو قليل الفعل ولا شك!.
فقد شبهتم ربكم بالمولود حديث الولادة الذي تبدأ أفعاله لحظة بداية وجوده سببحانه، وحتى لا نستطرد، نعود للتعليق على كلام الإمام المزني:
فقوله: وكلمات الله (صفة فعلية) وقدرة الله (صفة ذاتية) ونعته وَصِفَاته كاملات غير مخلوقات دائمات أزليات
فيه أنه لا فرق بين الصفات الفعلية وبين الصفات الذاتية من جهة الأزلية والدوام.
وقوله "دائمات أزليات" فيه رد على من جعلهم سيان في وجه الأزلية،
فصفة الوجه ذاتية، هي أزلية ودائمة لا تبيد
وصفة الكلام صفة أزلية "دائمة" فقوله أنها دائمة ينفي أن الله فعل فعل منذ الأزل كما يقول المعطلة عن الأفعال الاختيارية، فعلى مذهبهم يصح أن يقال أنها أزلية، لكن لا يقال أنها دائمة، لأن الله عندهم فرغ من الفعل أزلًا بينما تأخر المفعول فقط!
أما المزني فيقول هي أزلية ودائمة فالذاتية دائمة دوام الذات، والفعلية دائمة دوام الأفعال الداخلة فيها فعل بعد فعل على التعاقب، يفرغ الله من الفعل المعين، كما فرغ من الكلام مع آدم وموسى، وكما فرغ من خلق آدم، وفرغ من خلق العالم والاستواء على العرش.
وقوله رحمه الله: وَلَيْسَت بمحدثات فتبيد وَلَا كَانَ رَبنَا نَاقِصا فيزيد
فالمحدثات المقصودة أي المخلوقات، إذ المخلوقات هي الذوات البائنة عن ذات الله، ولا يصح أن توصف الأفعال بأنها تبيد، لأن الفعل يفرغ منه وليس بذات حتى يبيد ويفنى، إذ أفعال الله يفرغ منها فهل هي تبيد وتفنى إذًا؟
وكما ذكرنا، الفعل المعين لا معنى أن يستمر بعد الفراغ منه، فخلق العالم وخلق آدم لا معنى أن يبقى بعد خلق آدم نفسه كما نقلت عن الإمام أحمد! وهو هو واضح في بداهة العقل والفطرة.
لكن الدائم هو نوع الصفة وليس الفعل المعين، ولا يطلق على الفعل أنه يفنى ويبيد إلا إذا فنيت الصفة التي بها يتم فعله، أو الذات التي قام بها، لذلك المحدثات المقصودة بأنها تبيد وتفنى هي ذوات المخلوقات "المحدثات" على مصطلح من يرد عليهم الإمام.
ومما يدل على ذلك أيضًا قوله بعدها "قريب بالإجابة عِنْد السُّؤَال" فيقول أنه قريب الإجابة "عند" السؤال، فهذا فيه إثبات الأفعال الاختيارية وأن الإجابة تتم بالطبع ويفرغ منها كما هو واضح.
وكما ترى فهو يرد على المفرقين بين الذاتية والفعلية بأن الله لم يكن ناقصًا فيزيد، لأن الكلام والخلق والرزق كلها صفات كمال لازمة له وصف الله بها نفسه بإطلاق بلا تقييد وبصيغة مبالغة، فلا يصح أن يكون لم يخلق مطلقا من الأزل ولم يرزق مخلوقا قط ولم يهدي مخلوقًا قط، ولم يعدل مع مخلوق، ولم يعبده مخلوق قط، ثم بدأ ذلك وصار كاملًا من بعد نقص بفعله أفعال الكمال اللائقة به!
وفي قوله رحمه الله: عَال على عَرْشه بَائِن من خلقه مَوْجُود وَلَيْسَ بمعدوم وَلَا بمفقود
فيه تحقيق إثبات العلو والانفصال عن الخلق، وقوله "ليس بمعدوم"
رد على من يقول أنه لا بائن ولا ممازج، أي لا خارج العالم ولا داخله، مثل العدم:
كما ذكر الإمام أحمد في حجته على الحهمية:
فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه.
فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسًّا (مخالطًا حالّا)؟
قال: لا. قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين؟ فلم يحسن الجواب.
فقال: بلا كيف. فيخدع جهال الناس بهذه الكلمة وموه عليهم." (7)
وفي قول الإمام المزني رحمه الله: "وَلَا بمفقود"
رده على من لا يدري أين ربه ولا يصفه بأين
كما يقول الإمام الدارمي:
"وكيف يهتدي بشر للتوحيد، وهو لا يعرف مكان واجده، ولا هو بزعمه في الدنيا والآخرة بواجده"
"فقول الإمام الدارمي: لا هو بزعمه في الدنيا والآخرة بواجده، أي أنه لن يجده يوم القيامة لأنه لا يعرف له مكان." (8 )
فالعرب يقولون أن الموجد يمكنك أن تجده إن طلبته، أو تعثر عليه إن بحثت عنه في مكان ما.
كقول الله تعالى "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا"
وفيه أيضًا صحة إطلاق لفظة "موجود" على الله
لأن (موجود) من الفعل الثلاثي (وجد)، بمعني ( طلب ) أو (عثر على)، واسم الفاعل (واجد)؛ أى: (الذي يعثر على )، واسم المفعول (موجود) أي: الذي يجده طالبه.
وأيضًا (موجود) عكس (معدوم) ... والله موجود وليس عدمًا.
وليس موجود على وزن مفعول
لكن الفعل الذي بمعني خلق أو أنشأ هو الرباعي: (أوجد)، واسم الفاعل منه: (موجِد) -بكسر الجيم- بمعنى خالق أو منشئ، واسم المفعول (موجَد)- بفتح الجيم- بمعنى مخلوق أو أوجده غيره .. فلا يقال على الله تعالى: (موجَد) بالفتح..
وإنما وقع الخطأ بسبب الخلط بين الثلاثي والرباعي في الاشتقاق والدلالة.
وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: كنتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومًا قال يا غلامُ ، إني أعلِّمُك كلماتٍ : احفَظِ اللهَ يحفَظْك ، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك (9 )
انتهى بحمد الله.
بقلم : #الغيث_الشامي ستر الله عيوبه
________
(1) شرح السنة للإمام المزني رحمه الله
(2) خلق أفعال العباد للإمام البخاري رحمه الله
(3) النقض على المريسي للإمام الدارمي رحمه الله
(4) كتاب السنة للإمام أبو بكر الخلال رحمه الله
(5) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
(6) الصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ وَمُبَالَغَةُ اسمِ الفَاعِلِ في القرآنِ الكَرِيمِ - أ. د. صبري إبراهيم السيد محمد - د. محمود الشرقاوي إبراهيم
(7) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
(8 ) النقض على المريسي للإمام الدارمي رحمه الله
(9) فائدة لغوية من د. محمد الشوا