التأويل بين المعنى الصحيح والمعنى البدعي

2 وقت القراءة

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"وممَّا يعتمد عليه (أهل التجهيل = التفويض) من ذلك ما فهموه من قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} ويظنُّون أن التأويل هو المعنى الذي يسمُّونه هم تأويلًا وهو مخالفٌ للظاهر.

❁ ثم هؤلاء قد يقولون تُجْرَى النصوصُ على ظاهرها وتأويلُها لا يعلمه إلا الله ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر وهذا تناقضٌ منهم.

❁ وطائفةٌ يريدون بالظاهر ألفاظَ النصوص فقط.

❖ والطائفتان غالطتان في فهم الآية.

❏ وذلك أن لفظ التأويل قد صار بسبب تعدُّد الاصطلاحات له ثلاث معانٍ :

❁ أحدها أن يراد بالتأويل حقيقةُ ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهرَه وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ومنه قول عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أن يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهمَّ ربنا ولك الحمد اللهم اغفر لي» يتأوَّلُ القرآن.

❁ والثاني أن يراد بلفظ التأويل التفسير وهو اصطلاحُ كثيرٍ من المفسرين ولهذا قال مجاهدٌ إمامُ أهل التفسير إن الراسخين في العلم يَعْلَمُون تأويلَ المتشابه فإنه أراد بذلك تفسيرَه وبيان معانيه وهذا مما يعلمُه الراسخون.

❁ والثالث (البدعي) أن يراد بلفظ التأويل صرفُ اللفظ عن ظاهره الذي يدلُّ عليه إلى ما يخالفُ ذلك لدليلٍ منفصلٍ يوجبُ ذلك وهذا التأويلُ لا يكونُ إلا مخالفًا لما يدلُّ عليه اللفظُ ويبيِّنه.

وتسميةُ هذا تأويلًا لم يكن في عُرف السَّلف وإنما سمَّى هذا وحده تأويلًا طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام وظنَّ هؤلاء أن قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} يرادُ به هذا المعنى.

❖ ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين:

❁ قوم يقولون إنه لا يعلمه إلا الله.

❁ وقوم يقولون إن الراسخين في العلم يعلمونه.

وكلتا الطائفتين مخطئة فإن هذا التأويل في كثيرٍ من المواضع أو أكثرها وعامَّتها من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه من جنس تأويلات القرامطة والباطنية وهذا هو التأويلُ الذي اتفق سلفُ الأمة وأئمَّتها على ذَمِّه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورَمَوا في آثارهم بالشُّهْبان.

وقد صنَّف الإمام أحمد كتابًا في الردِّ على هؤلاء وسمَّاه الردّ على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأوَّلتْه على غير تأويله فعاب أحمدُ عليهم أنها تفسِّرُ القرآنَ بغير ما هو معناه.

ولم يقل أحمدُ ولا أحدٌ من الأئمَّة إن الرسول لم يكن يعرفُ معاني آياتِ الصفات وأحاديثها ولا قالوا إن الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ لم يعرفوا تفسيرَ القرآن ومعانِيَه.

كيف وقد أمر الله بتدبُّر كتابه فقال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ولم يقل بعض آياته وقال {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقال {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وأمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن الله يحبُّ أن يُتَدبَّر القرآنُ كلُّه وأنه جعله نورًا وهدًى لعباده ومحالٌ أن يكون ذلك ممَّا لا يُفْهَمُ معناه.

وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمي حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ لم نجاوِزْها حتى نتعلَّم ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلَّمنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا.

_____

الانتصار لأهل الأثر = نقض المنطق - ط عالم الفوائد (ص: 99-102)

#الغيث_الشامي

إرسال تعليق