يقول نصر حامد أبو زيد (عليه من الله ما يستحق): "فالقرآن خطاب تاريخي لا يتضمن معنى مفارقا جوهريا ثابتا ... وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص ... فالقرآن قد تحوّل من لحظة نزوله من كونه (نصا إلهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا ) لأنه تحوّل من التنزيل إلى التأويل، وهذه التاريخية تنطبق على النصوص التشريعية، وعلى نصوص العقائد والقصص، وهي تُحرِّك دلالة النصوص وتنقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز."
___
فهذه اللفظية الجديدة تعتبر أن كون الصدور البشرية هي حاملة الألفاظ والأفهام البشرية حاملة المعاني يحيل القرآن نفسه في الأرض إلى مخلوق بالضرورة ويلتزم لوازم ذلك إذ عنده أن هذا سيدخل النقص على القرآن بالضرورة، ويزيد عليه بأنه يقول بتعجيز الله سبحانه عن أن يخرج الكلام من نفسه إلى المخاطبين به مع بقاء المعنى كما يريد، فصفة الكلام بطبيعتها ناقصة عنده بالضرورة عند كل من اتصف بها وأن الكلام لا يحمل في نفسه صفة جوهرية بحيث يكون مبين لقوم من الأقوام، ويمكن أن يُتناقل لفظًا ومعنى، إنما هو بطبيعته سائل خاضع للنسبية التاريخية ولنسبية الأفهام بشكل لا يمكن تلافيه، فلا يمكن أن تكون جماعة من الناس معصومة في فهمه.
ونحن نقول نعم قلوب البشر وعقولهم مخلوقة، ولكن فعل الله الذي هو الإفهام غير مخلوق وهو نافذ فهو قادر أن يفهم العباد من كلامه وأن يعطيهم العلم بكلامه لفظًا ومعنى وأن يبقي فيهم أسباب حفظه كما تعهد بذلك سبحانه، فإن كان إلهك خاضع لهذه النسبية فهذا ليس بإلهنا والحمد لله، وهذا الباب حقيقة فتحه الرازي قبله حين قال أن طبيعة الأدلة اللفظية أنها ظنية! فسبحان الله تشابهم قلوبهم، فهي عنده لا تبلغ الكمال لأن الألفاظ مخلوقة بالضرورة ولازمها النقص ويظهر هذا النقص بأنها مهما كانت مبينة ستبقى ناقصة عن أن توصل المراد كعلم ضروري للسامع!
حتى لو كان الله يريد أن يجعل كلامه مبينًا واضحًا عربيّا كاملًا ويفهم منه الرسول والصحابة ثم تتناقل هذه الأفهام بعبارات كثيرة حد التواتر المعنوي وتتناقل السنة موضحة للقران وكلام السلف وإجماعاتهم واستقرائهم التام للنصوص بمجموعهم مع تتلمذهم على الصحابة ثم التابعين جيلًا بعد جيل لا يقول منهم أحد قولًا بلا إمام إلا نبذوه وبدعوه وأغلظوا عليه حفاظًا على الدين من أن تشوبه شائبة، فكل هذا عندهم غير مقدور فسبحان الله، والحمد لله على نعمةٍ وهبها الله لهذه الأمة وهي شدة السلف وتمسكهم بالكتاب والسنة لا يخافون في الله لومة لائم ولا يجاملون فحماية الدين من أن تطاله أيدي المحرفين والمبدلين بغض النظر عن نيتهم أكانت حسنة أم سيئة يحتاج شدة وحزم وصرامة فالأمر ليس بالهزل!!
وليس وراء أن يقال إن القرآن نقل لنا لفظًا ومعنى معصومين إلا القول بسيولة الفهم ونسبيته، والباطنية والتخييل والتأويل والتفويض الذي ليس له حد ولا قيد يوقف عنده ويلزم الجميع، بل هو أداة لم يزل يستخدمها أهل الباطل ينقضون أقوال بعضهم بعضًا فيها ولا حجة لأحد على أحد، فكلّ يستخدم هذه النصوص لنصرة عقله هو وكلهم تجاهلوا فهم مقصود القائل كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه الصواعق في نص نفيس تحدث فيه عن ذلك.
فإن لم يكن فهم سلف الأمة المخاطبين وتلاميذهم المباشرين الصادقين المؤتمنين على هذا الدين حجة فليس فهم أي أحد بعدهم بحجة وإذا ليقل من شاء ما شاء إلى غير نهاية وينفتح باب التأويل اللانهائي لنصوص القرآن وهذه أجمل هدية لكل زنديق أو ما بعد حداثي وبرهنة على كلامه أن القرآن ليس له معنى واحد يمكن الوصول إليه والقياس والتفريع عليه إنما هو بحسب القارئ مثله مثل أي نص آخر والفهم الإنساني له لا يحمل القداسة وبالتالي لا وجود مقدس له في الأرض.
وليس لهذا زمن معين ولا حد معين يوقف عنده فلا يزال الزنادقة يتحفوننا في كل عصر بأفهام جديدة بحسب القضايا الجديدة في هذا العصر سواء في باب الفلسفات الأخلاقية أو الاقتصادية أو الميتافيزيقية، إلخ..
بل بعضهم صرح أن القرآن تأثر بالبيئة التاريخية له فكان الرسول يقر الصحابة على فهمهم التجسيمي بنصوص ظاهرها التجسيم لأن هذا هو المناسب لذلك السياق التاريخي بينما في سياق تاريخي "أحدث" سيكون العقل هو الهادي إلى سبيل الرشاد في هذا.
فالأداة واحدة والمقدمات واحدة، القران مخلوق فهو ناقص، والقران الذي عند البشر غير القران الكامل الذي في نفس الله والذي لا يتعداها أبدًا إلا صار مخلوقًا ناقصًا.
#الغيث_الشامي